هذا مثل من الكم الهائل من الأمثال في اللغة العربية الخالدة، هذه اللغة التي خلدها نزول القرآن الكريم بها فهي بذلك لن تندثر برغم المحاولات الكثيرة من قبل قوم ادعوا أنها لهم؛ وفي نفس الوقت هم يعملون جاهدين مع قوم موتورين رأوا أن خلودها هزيمة لهم وطمسًا لحضارتهم فاستعانوا بأناس من أبنائها لهم أجندات خاصة تخدم مصالحهم الذاتية والآنية فقط.
وإذا أمعنّا النظر في هذا المثل سوف نستخرج من ثناياه فوائد جمة؛ فمن المعلوم أن الدلو هو ذلك الإناء الذي يلقى في البئر معقودًا بحبل ليستخر مستعملوه الماء من البئر، فأخذ هذا مثلاً للرأي، والمعنى الحقيقي لهذا المثل يحمل فضيلة التعاون، فلنفرض أن القوم حول البئر أرادوا أن يملؤوا حوضًا حول هذه البئر فلو عمل كل واحد بمفرده لبذل جهدًا مضاعفًا ولضاع مع الجهد الوقت، ولكن لو اجتمع أهل تلك البئر والمستفيدون منها وأتى كل واحد منهم بدلو وأدلاه في البئر فسوف يمتلأ الحوض في وقت أقصر من امتلائه حين القيام بالعمل الفردي، هذا مجرد مثال ولكنه يعزز ذلك المعنى الذي أردنا الوصول إليه، هنا استعاض العرب عن المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي، وهو حين يطرأ أمر ما واجتمع الناس لينظروا فيه فإنهم سوف يتشاورون في ذلك الأمر وكل واحد منهم يعطي رأيه، وهنا تأتي الكلمة التي نحن بصدد الحديث عنها، نعم هنا يدلي كل واحد من المجتمعين بدلوه، أي يدلي برأيه، واستعضنا كلمة (بدلوه) بالرأي وأبقينا كلمة يدلي كما هي.
إنه جمال اللغة العربية تلك اللغة التي ظلمها أهلها أكثر من ظلم أعدائها لها، ولقد تعجبت كثيرًا من قوم أخذوا يطالبون بإخراج اللغة من ثوبها الصحراوي كما يقولون، وكذبوا في ادعائهم ونحن نعلم المغزى الحقيقي لهذه المطالبات وتلك الادعاءات، هم أرادوا أن يثبتوا للأجيال القادمة التي هيؤوها وشكلوها حسب أهوائهم أن اللغة العربية فقيرة وأنها عاجزة عن مجاراة عصر التكنولوجيا والصناعات والتقنيات الحديثة، وهم ما أنصفوا اللغة لأنهم جهلوا كنهها وما فيها من مفردات تعجز أي لغة من اللغات الحية في العالم أن تجاريها في عدد مفرداتها، بل ليس هناك وجه للشبه أو المقارنة على الإطلاق؛ فإذا علمنا أن عدد مفردات اللغة العربية هي ١٢,٣٠٢,٩١٢ مفردة ويقابلها في اللغة الإنجليزية ٦٠٠٠٠٠ ألف مفردة، واللغة الفرنسية ١٥٠٠٠٠ واللغة الروسية ١٣٠٠٠٠ ألف، فنسأل الذين يقولون إن اللغة العربية فقيرة ولا تستطيع مجاراة عصر الصناعة والتكنولوجيا، نسألهم أن يكونوا منصفين في إجاباتهم: هل هناك وجه للمقارنة؟ أم أنها مجرد ادعاءات لا حقيقة لها لأمر ما في أنفسهم؟
ونسأل هل اللغة العربية فقيرة في مفرداتها؟ وهي التي تعطي مثلاً الأسد خمسون اسمًا، والسيف كذلك، والقرآن الكريم كذلك، وأشياء كثيرة وهي بعكس اللغات الأخرى التي تعطي لعدد من الأشياء اسما أو كلمة واحدة مع اختلاف طفيف في النطق أو الحروف، والتي يصعب على غير المجيدين لها تبيين الاختلاف في الحروف أو في النطق، وفي الحقيقة إن المثل القائل (المنتصر هو من يكتب التاريخ) فيه من الحقيقة الشيء الكثير؛ فعندما كانت الأمة الإسلامية هي المنتصرة والمسيطرة وتمسك بزمام قيادة العالم؛ كانت هي اللغة الحية التي يتعلمها كل من كانوا تحت إمرتها وسلطانها مع تعدد لغاتهم ولهجاتهم حتى وإن كانوا غير عرب، ولكن عندما نام العرب واستيقظ الغرب وتولى زمام الأمور تراجعت اللغة العربية عن مكانتها المرموقة، ولولا أن القرآن الكريم أنزل بها وتكفل الله بحفظه لاندثرت وبادت كما بادت حضارات كثيرة كانت لها شأن عظيم.
وتلك هي طبيعة الدنيا تعلوا بأمة حينا من الدهر حتى تبلغ بها مجاري الأفلاك ثم تهبط بها إلى مسابح الأسماك، وهكذا دواليك وصدق الله العظيم إذ يقول في محكم التنزيل ( وتلك الأيام نداولها بين الناس )، وهذه الأمور كلها مقدرة من الله تعالى، سبحان العليم الحكيم.
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب