يقول الله تعالى في كتابه العزيز (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) ..
فقد ربط الله سبحانه وتعالى الحكمة بالعقل واللب، وأولو الألباب هم أصحاب العقول الراجحة التي تزن الأمور بميزان أدق من ميزان الذهب ..
صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو من يتفضل على المرء بإعطائه الحكمة والرأي السديد فكل المنن والأفضال والنعم من لدنه سبحانه، ولكن على المرء الباحث عن الحكمة أن يسلك طريقها فهي لا تأتي هكذا جزافًا ولابد من تهيئة النفس وكل سبيل يؤدي إليها، فمنها لزوم مجالس الحكماء من كبار السن راجحي العقول والصمت والاستماع إلى أحاديثهم وإفراغ العقل من كل شوائب السفه من قول أو فعل وتجنب المجالس التي يكثر فيها اللغط والأقوال النابية وهي أشبه بـ (المارستان) منها بمجالس الحكمة ..
وحين أسترجع الذكريات لتلك الأيام الخوالي وأستل منها تلك الذكرى الجميلة ، فقد كان أبي الشيخ يحيى كما كان يدعى يجتمع مع أترابه في بيتنا الذي كان يعتبر كمجلس للشيوخ ويعقدون مجالسهم كل أسبوع في يوم الجمعة يجتمعون لحل ما حدث من أشكال خلال الأسبوع وكنا نلتقط من أفواههم بعض الكلمات التي تتسرب إلى آذاننا الصغيرة، وكنا لا نفقه معظمها ولسنا مدركين معانيها السامية ولم نتبين ما يدور بينهم ولكن عندما كبرنا وأسعفتنا ذاكرتنا مما احتفظت به من مفردات ، أدركنا حينئذ أن تلك المجالس إنما هي فعلا مجالس الشيوخ الحكماء وكنا نحاول أن نقلدهم في أفعالهم الرزينة المليئة بالحكمة وكانوا يمشون في الصلح بين المتخاصمين، فلم يكن من المعقول عندهم أن يهجر المرء أخاه فوق ما سمح الدين به، وكانوا يخرجون من بينهم كل نمام يسعى لتفرقة الأخوة عن بعضهم بدق إسفين الخلاف واستغلال أي أحداث صغيرة ليدحرجها ككرة الثلج التي كلما تدحرجت ازداد حجمها حتى تغدو خطرًا على الناس ..
نعم كانوا يمشون بخطى ثابتة وئيدة إلى غاية سامية وهي تهدئة الخواطر وجبرها وجس مواضع أوجاع المجتمع ومعالجته، وكانت حواراتهم غاية في الروعة والجمال فإذا تكلم أحدهم أنصت الجميع حتى يكمل فكرته وحديثه ثم يأخذ غيره بطرف الحديث ويدلي برأيه ولم تكن كحوارات (الطرشان) كما يقال الكل يتكلم وإذا تكلم الكل ضاع الوقت ولم يستطع أحدهم أن يوصل فكرته ولن يخرج من هذا إلا بمزيد من الخلاف…
ولقد تغير الحال تماماً ، ففي زمننا هذا نرى السفة من بعض كبار السن الذين كان من المفترض هم من يعلمون الشباب أصول الحديث وإدارة الرأي وعندما يتساوى شيخ قد بلغ من العمر مبلغه وشاب في مقتبل العمر يحتاج إلى حكمة شيخ؛ فاعلم أن في المجتمع خلل وثغرة يجب أن تسد برأي سديد.
وصدق الشاعر الحكيم زهير بن أبي سلمى المزني ، حين قال :- (وان سفاه الشيخ لا حلم بعده … وإن الفتى بعد السفاهة يحلم).
وعندما جاء قوم لوط إليه يبغون الباطل فحاورهم وفي النهاية عندما لم يجد عندهم من الخير ما يرجو صلاحهم به ورأى أنهم كلهم مجمعون على رأى واحد من الضلال والسفه ناداهم النداء الأخير علهم يرجعون عن جهلهم وسفههم ، قال لهم (اليس فيكم رجل رشيد) ، نداء اليائس من صلاحهم حين علم أنهم مجمعون على باطل ولم يجد من يقول لهم ويحكم.
فَلَو علم أن هؤلاء القوم هلكى لا محالة وأن القرية أو المدينة أو حتى الأمة التي لا يوجد فيها حكيم واحد حق لها أن تدمر وتزول وتنقرض لأنه لا خير فيها ولو كان هناك شخص حكيم واحد لما هلكت، ولقد تأسفت كثيرًا عندما رأيت بعض المجالس والاستراحات ليس هناك فرق فيها بين الشيخ والشاب ويتشدقون بأنهم ديموقراطيين فلو كان المجلس مجلس حكمة لما أنكرنا ذلك ، ولكن حين يتحول المجلس إلى مجرد تهريج وهزل لا جد فيه ولا يقدر الصغير الكبير لان ذلك الكبير قد أنزل نفسه منزلة جعلت منه أضحوكة .. نعم هذا زمن ضاعت فيه الحكمة إلا ما ندر .
إبراهيم يحيى أبو ليلى
مقالات سابقة للكاتب