الحمد لرب الملأ والحمد لمن على عرشه استوى .. وكل الحمد لرب السماوات العلى .. حمداً يليق به وكفى والصلاة والسلام على خير الهدى .. محمد عبده ورسوله المصطفى .. خير من مشى على الأرض وأظلته السماء .
فبدايتي كانت كأي شاب لديه طموح ويحتاج إلى مُوجِّه، تخرجت من الثانوية والتحقت بالكلية العسكرية، وأول ما بدأت بتعبئة بيانات استمارة التقديم لاستكمال التسجيل بالكلية العسكرية تفاجأت برفض رئيس مركز القرية تصديق أوراقي بحجة أنه لا داعي لذهابي بعيداً عن أهلي ، وأنه يعرف مصلحتي أكثر مني، واستعنت بالله ثم بمن قاد حملة الدفاع عن مستقبلي واكملت إجراءات التسجيل وتم قبولي .. ومنها تعلمت أنه في رسم الطموح لا تنظر للعوائق ولا ترضخ للضغوط واستعن بالله ثم بمن يساعدك على تحقيق أهدافك ، وبعد تخرجي حضر رئيس المركز حفلتي التي أقامها الأهل واعتذر مني ودعا لي.
وأدركت بعد تخرجي أن الحياة مدرسة فتعلمت منها الدروس ، وأنها متقلبة لا تثبت على حال فتقبلتها كما هي ، وعلمتني الحياة أن الأجر على قدر العمل ، وأن الحظ جزء من الحياة ، وألا كيف يربح الجائزة الكبرى رجل لمجرد أنه اشترك في مسابقة ؟! أنه الحظ .. ولا أستطيع أن أنكر أنني استفدت من الحظ بالقدر الذي أسعدني ولكن الجهد أولى بالنجاح من الصدفة وجميلٌ أن يكون المجتهد محظوظ.
علمتني الحياة أن الناس بالناس والكل بالله ، فمن الناس من يرى الجميع يقدمون خدمة لبعضهم مهما كان حجم هذه الخدمة وأهميتها وعلى قدر استطاعتهم ، ومنهم من يرى أنهم إن لم يستطيعوا تنفيذ كل ما يريده فقد قصروا في أداء الواجب ، ولكن الجميع يتفق أن خدمة الناس وإرضاءهم جميعاً أمر مستحيل ، فرضى الناس غاية لا تدرك، ولكن مع الاجتهاد وحسن الاستقبال والابتسامة الصادقة تقدم الخدمة وترفع عنك الحرج.
علمتني الحياة أنه لا يجتمع المنطق مع الغيرة والحسد ، وعند وجودها تقل القدرة على الإقناع عند الشخص المحسود فعندما تتفوق وتصل لمكانة مرموقة ومنصب جيد وتتقاعد ،،فإن بعض الأقارب وأهل الحي ينظرون إليك بأنك إنسان عادي ونعرفه ونعرف أهله وكذا وكذا ولا يستفيدون منك حسداً من عند أنفسهم أو غيره أو تجاهل ، بينما الآخرون من غير مجتمعك ربما يرون إنك مصدر سعادتهم والتعرف عليك مكسب لهم ، لذلك ترى إن خير بعض الناس لغير أهله رغم أن “الأقربون أولى بالمعروف”.
علمتني الحياة إن قيمة الشخص تتأثر بمظهره ، ومن يظن أن الناس لا يحكمون علينا من خلال مظاهرنا فهو مخطيء ، والوظائف مهما صغرت أو كبرت تتشابه ومكملة لبعضها البعض ولولا الحاجة لها لما وجدت وكلها توزعت حسب الدرجة العلمية وما يقدمه الشخص حسب استطاعته وشهادته ، ولو وجدت كل الأشخاص في مكان ما على مستوى واحد من اللباقة والأناقة وحسن المظهر ورحابة الصدر فإنك لست مضطراً أن تسأل عن وظائفهم وشهاداتهم بل تعرض ما لديك لأي منهم ظناً منك أنه هو المسؤول.
علمتني الحياة أن الخبرة ليست بعدد السنين التي يقضيها الشخص في مجال معين أو أكثر من مجال بطريقة خاطئة ولم تحدث أي تغيير في سلوك الآخرين فهذه أخطاء متراكمة وليست خبرات أو خبرات سيئة تتكرر طوال خدمتك فالأشخاص الذين لديهم نفس عدد السنوات ونفس الوظيفة تجد أن أحدهم أفضل من الآخر ويعتبر خبير ، فالخبرة هي المعرفة والمهارة والملاحظة تكتسب بالمشاركة.
علمتني الحياة أن اتخاذ القرار للإصلاح والتطوير يرادفه قرار آخر مؤلم لشخص أو دائرة ولكن لابد من اتخاذه ، وأنا ممن تألمت لقرارات وأوامر كانت ضدي ولكنني تجاوزتها ووصلت لأعلى المناصب وأنا أيضاً ممن اضطررت لاتخاذ قرارات تضرر منها أشخاص آخرون ولكن لا بد من اتخاذها لضمان سير العمل ، فالمسؤول لا يكون سعيداً عندما يتخذ قراراً مؤلماً ، ولكن لابد أن يتخذه لتحقيق مصلحة العمل الذي أؤتمن عليه ، والأشخاص الناجحون يتخذون قراراتهم بسرعة ويغيرونها ببطء ، والفاشلون يتخذون قراراتهم ببطء ويغيرونها بسرعة.
علمتني الحياة أن كل التجارب التي يمر بها الإنسان غنية بالمواقف والمفارقات والصدف ولكن ليس كل الناس يعطون هذه التجارب القدر الصحيح من الأهمية والاهتمام ، فنحن في الجامعة نتعلم الدروس ثم نواجه الامتحانات ، وفي الحياة نواجه الامتحانات ونتعلم منها الدروس والعبر وسأذكر بعض من تلك المواقف باختصار.
أتذكر أنني بعدما أمضيت أربع سنوات في مجال معين وأتقنته تم إبلاغي مع عدد من زملائي بالبحث عن وظائف بديلة في أي مجال آخر بسبب تخرج زملاء لنا متخصصين في ذلك المجال فأحبطت في البداية لتغيير مساري الوظيفي ، ولكنني أصريت على الاستمرار بنفس المجال واضطررت إلى البعد عن الأهل حتى أصل إلى هدفي وتحقق لي بالإصرار والعزيمة والإقدام والاستشارة.
وأتذكر أنني عندما عينت مديراً لإحدى الإدارات لمدة ست سنوات واشتركت بدورة إعداد في مجال تخصصي ولما عدت لمقر عملي وجدت أن وظيفتي ملغاة كفكرة تطويرية لدمج عدد من الإدارات وأنه ينبغي علي أن أبحث عن وظيفة في مجال آخر فانتقل عملي لمجال آخر وبدأت من جديد لأكون متميزاً وأحقق طموحي بالصبر والتحمل وعدم اليأس.
وأتذكر بعدما أمضيت قرابة أربعة عشر عاماً أخدم وطني في أكثر من مجال ، ورغبة مني في أن أحصل على منصب كنت أطمح إليه وأستحقه ولكنني لم أحظ برضى رئيسي وتعييني في هذا المنصب ، وهنا أيقنت أنه ليس مكتوب لي أو على الأقل في هذا الموقع فرغم أنني كنت مرتاح مادياً ومعنوياً ولكني غير راض وظيفياً وأجد في نفسي القدرة على الوصول للقمة التي أنظر لها أنها تتسع للجميع ولكنها لم تكتب لي في ذلك الوقت ، فقررت استشارة الوالدة -حفظها الله- في أمري بعد الاستخارة؛ هل أعود إلى جدة وأضحي بالوظيفة ولم يتبقى من خدمتي سوى سنة أو أقل ، فقالت أطال الله في عمرها وحفظها باللهجة العامية (( تعال يا وليدي وخلك بجنبي وإذا لك رزق الله يكتبه .. “قليل يهنيك، ولا كثير يعنيك”)) فقدمت طلب إعادتي إلى جدة وتم نقلي دون تحقيق طموحاتي.
وأتذكر أنني عملت بوظيفة أقل من قدراتي ورتبتي وطموحي واستمريت ثلاثة أشهر فتغير القائد وبحث القائد الجديد – وفقه الله – عني وكلفني بمهام ليتعرف على قدراتي وبعدها كلفني بوظيفة تناسب رتبتي ولم تمض سوى ستة أشهر حتى تبلغت بترشيحي للرتبة التي كنت أنتظرها والوظيفة التي أطمح إليها ، وحصل لي بفضل الله ثم باجتهادي وصبري ودعاء والدتي ما سعيت له منذ تعييني قبل ثلاثين عاماً حافلة بالعطاء وشرف الخدمة والحمد لله .
أخيراً علمتني الحياة أن التقاعد مرحلة جديدة من مراحل العمر لا بد أن يمر بها الإنسان وهي مرحلة صعبة للانتقال من حياة بنظام معين إلى حالة من الفراغ تحتاج إلى برامج لشغله فيما ينفع من الدنيا والآخرة ، والتقاعد ليس نهاية المطاف بل هو مرحلة جديدة من مراحل العطاء للوطن وفرصة لخدمة المجتمع من مواقع أخرى والحمد الله حمد الشاكرين.
اللواء صادق عبدالعزيز الشيخ