رسائل مُبتعث
مدخل إلى الرسائل:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1}خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3}الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5}، وقد ورد في تفسير إبن كثير ما نصه ” فَأَوَّل شَيْء نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن هَذِهِ الْآيَات الْكَرِيمَات الْمُبَارَكَات وَهُنَّ أَوَّل رَحْمَة رَحِمَ اللَّه بِهَا الْعِبَاد وَأَوَّل نِعْمَة أَنْعَمَ اللَّه بِهَا عَلَيْهِمْ ، كَرَّمَهُ تَعَالَى أَنْ عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا لَمْ يَعْلَم فَشَرَّفَهُ وَكَرَّمَهُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ الْقَدْر الَّذِي اِمْتَازَ بِهِ أَبُو الْبَرِيَّة آدَم عَلَى الْمَلَائِكَة وَالْعِلْم تَارَة يَكُون فِي الْأَذْهَان وَتَارَة يَكُون فِي اللِّسَان وَتَارَة يَكُون فِي الْكِتَابَة بِالْبَنَانِ ذِهْنِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ . وَالرَّسْمِيّ يَسْتَلْزِمهُمَا مِنْ غَيْر عَكْس فَلِهَذَا قَالَ ( اِقْرَأْ وَرَبّك الْأَكْرَم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا لَمْ يَعْلَم) وَفِي الْأَثَر قَيِّدُوا الْعِلْم بِالْكِتَابَةِ ، وَفِيهِ أَيْضًا مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَم .
وكذلك ورد في الحديث الشريف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : “إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا ، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ “.
من هذا المنطلق بما نصت عليه هذا الآيات البينات ، وهذا الحديث الشريف كانت بداية هذه السلسلة من الرسائل كتبتها لمن كان له الفضل الأول بعد الله سبحانه وتعالى ووالدي جزاهما الله عني كل خير في دفعي إلى التغرب لطلب العلم .
إسمي ” إبراهيم ” وهذا يكفي الآن على الأقل ، وقد بدأت قصة هذه الرسائل منذ أكثر من ثلاث أعوام عندما كنت أجلس من إبن عمي ” ماجد ” على ربوة صغيرة في قريتنا الحالمة التي بدأت تفقد مقومات القرية وتزحف بهدوء إلى تقمص شخصية الضاحية ، كان يوم إجازة مدرسية إذ كنت في الصف الثالث الثانوي وإبن عمي الذي يصغرني في الصف الأول الثانوي ، تكلمنا يومها كثيراً عن أمور الحياة وعن طموحاتنا عندما نكبر ، فقال لي “إني أود أن أكون سابحاً في الهواء أتنقل من بلد إلى آخر ، ضحكت يومها ملء صدري إذ إفتكرت قصص سوبرمان ، ولكن عندما أوضح لي أنه يريد أن يكون طياراً ، بادلته حلمي فقلت له إنني أريد أن أكون أي شيء في عالم الكمبيوتر ، كان هو أكثر مني نضجاً على الرغم من صغر سنه حيث كان مغرماً بالقراءة وبحضور الدورات التدريبية عن طريق الإنترنت وعلى أرض الواقع متى سنحت له الفرصة ، فقال لي لابد أن تحدد ماذا تريد لإنني سمعت أحد المحاضرين يقول ” إن كان هدفك واضحاً فإنك ستصل إليه بصورة أفضل بإذن الله” ، لم يكن لدي مثل طموحة إنما كانت فقط مجاراة لما يقول نظراً لحبي له حيث نشأنا وكأننا في بيت واحد ، فقلت له إذاً أريد أن أكون مبرمج كمبيوتر متميز، فقال الآن أصبت جزءً من الحقيقة وإنما عليك أن تعمل لتصل إلى ما تريد.
كان يفصل بيننا وبين إختبارات آخر العام خمسة أيام فقط ، فقال لي أنت ستحصل على الثانوية بعد أيام معدودات ولو كنت مكانك لدخلت على موقع وزارة التعليم العالي وأستعلمت عن شروط الإلتحاق ببرنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث الخارجي وسجلت فيه، شعرت برجفة ووجل بمجرد سماعي كلمة الإبتعاث الخارجي إذ أنني لم يسبق أن غادرت قريتي الصغيرة إلا إلى أحد المدن المجاورة لنا وذلك أقصى علمي بالعالم خارج قريتنا الحالمة بالإضافة إلى ما كنت أقرأه في المقررات الدراسية وما أشاهده على مواقع الإنترنت، قلت له ماذا تقصد؟ فقال إن كنت تريد أن تحقق حلمك فإن المجال مفتوح وأنصحك بالسفر لأنه سيعلمك أشياء كثيرة.
أنتهت الإختبارات وأستلمت الشهادة فرحاً بحصولي على المعدل الذي كنت أطمح إليه ، وهنا بدأ التردد مني والتشجيع منه ، أستشرت والدي ووالدتي فباركا لي ما نويته تلبية لرغبتي ، وكانت اللحظة الحاسمة عندما جلسنا سوياً أنا وإبن عمي أمام تلك الشاشة الصغيرة نداعب مفاتيح الحاسب المحمول حتى سجلت إسمي ضمن الراغبين في الإلتحاق ببرنامج الإبتعاث ، منذ تلك اللحظة طال ليلي وقصر نهاري من طول ما أقضيه من ساعات مستلقياً على فراشي حتى ساعات الفجر الأولى أفكر فيما ستحمله لي الأيام القادمة وقلقاً إن كان سيتم قبولي أم لا ، أنام بعد أن أصلي الفجر ولهذا قصر نهاري إذ كنت أصحوا متأخراً على وقت صلاة الظهر .
مرت الأيام سراعاً وقُبل طلبي وتوالت الأحداث بسرعة هائلة لم أكن أتوقعها وكثر التردد مني والتشجيع منه حتى حان يوم السفر إلى أقرب مدينة لقريتنا للحصول على جواز السفر ، ثم حضور لقاء مطابقة المستندات ، ثم الحصول على التأشيرة بعد صدور قرار الإبتعاث ، وتلا كل ذلك اللقاء التعريفي الذي تقيمه وزارة التعليم العالي للمرشحين للإبتعاث حيث تعلمت أشياء كثيرة لم أكن أعرفها عن الأنظمة في بلد الإبتعاث من ضمنها الحرص على الحصول على البرامج الأصلية في كمبوتري الشخصي وعدم تحميل أي برامج مقلدة أو غير أصلية إذ يعتبر ذلك جرماً في بعض الدول وقد يوقعني في مساءلة قانونية ، وكذلك عدم حمل أي أطعمة مطبوخة أو بذور إلا في حدود البن والهيل والتمر في بعض الأحوال ، وكذلك عدم حمل أغراض كثيرة إلا ما أحتاج إليه من أشياء ضرورية مثل قليل من الملابس الإفرنجية ، وطقم ملابس سعودية للمناسبات الخاصة بالملحقية أو الأندية الطلابية ، تعلمت أيضاً كيفية الدخول على البوابة الإلكترونية لوزارة التعليم العالي الخاصة بالملحقيات والمسماه “سفير” وتسجيل إسمي في البوابة وكذلك عنواني وجميع معلوماتي لضمان حصولي على المخصصات المالية .
بعد بأيام كان الحدث الأكبر في حياتي بحجز التذكرة للسفر إلى الولايات المتحدة الإمريكية لمواصلة دراستي ، بناء على ما تلقيته من توجيهات خلال اللقاء التعريفي فقد أستعنت بأحد الأصدقاء ممن يجيدون اللغة الإنجليزية وكان له تجربة سابقة في الإبتعاث لحجر فندقناً قريباً من معهد اللغة الذي سألتحق به مستعينين ببرنامج الخرائط الإلكترونية ومواقع حجز الفنادق ، وتم لنا ذلك بسهولة ، حيث كانت النية الوصول إلى مقر الإبتعاث قبل بدء الدراسة بوقت كاف والبقاء في الفندق أيام قلائل حتى أتدبر أمري في سكن مناسب ، نصحني الذي ساعدني بأن أفتتح حساب بنكي وأسجل معلومات للدخول عليه بواسطة الإنترنت للتحويل منه إلى حسابي في بلد الإبتعاث ، وكذلك الحصول على بطاقة صراف دولية لما لها من أهمية إذ أخبرني بأن معظم المعاملات تتم عن طريق بطاقات الدفع الإلكترونية والتي يطلق عليها محلياً “بطاقة صراف”.
في يوم السفر وأثناء الإنتظار في صالة المطار كان يقف بجانبي والدي ووالدتي وإبن عمي فتعاهدت معه أن أكتب له كل أسبوع رسالة أخبره فيها بكل ما يمر بي خلال الأسبوع حتى يكون مستعداً لتجاوز كل العقبات التي ربما أواجهها ويستفيد من خبراتي كما أستفدت أنا من خبراته وتشجيعه لي ، وهذه الرسائل هي عبارة عن خبراتي وتجاربي في الإبتعاث ليستفيد منها هو وكل من يهيء له الله السفر للدراسة إذ أنني سمحت له أن ينشرها بأي وسيلة كانت لتعميم الفائدة.
ستلاحظون في رسائلي أنني ساقفز المقدمة المعهودة في الرسائل وأبدأ في نص الرسالة مباشرة معتبراً أن ذلك أيسر في قبول تلك الرسالة من كل من يقرأها وكأنها موجهة له خصيصاً، وعلى بركة الله سأبدأ في الأسبوع القادم بأولى رسائلي وتجاربي في بلد الإبتعاث، فإلى لقاء.