رسائل مبتعث – ١

الرسالة الأولى 

حيث أنها المرة الأولى في حياتي التي أسافر فيها وحيداً وبعيداً وكذلك المرة الأولى التي أركب فيها طائرة ، فبعد أن أستلمت بطاقة صعود الطائرة وودعتكم مررت أولاً بموظف شركة الطيران الذي تأكد من أوراقي الثبوتية ومن تذكرتي ثم سمح لي بأن أتجاوزه إلى موظف الجوازات الذي هو أيضاً تأكد من أوراقي وختم جوازي موضحاً فيه اليوم والتاريخ ، كان هذا اليوم والتاريخ له وقع خاص في نفسي إذ أنه ينبئني بأنني أصبحت منذ هذه اللحظة رجلاً يعتمد على نفسه بعد الله في كل شيء، تقدمت أحمل حقيبتي اليدوية بعد أن غادرت موظف الجواز وأنا بين الخوف والرجاء الخوف من المستقبل الذي لا أعلم عنه شيء ، والرجاء في الله سبحانه وتعالى أن يوفقني بالتعرف على صحبة صالحة تعينني في مشواري القادم … مررت بعد ذلك بموظفي الجمارك وتم تمرير حقيبتي اليدوية من خلال جهاز الكشف الإلكتروني ، وكذلك نزعت عن جسدي كل ما له صلة بالمعادن وكذلك حذائي “أجلكم الله” ودخلت من خلال جهاز الكشف الإلكتروني وأنا أرتعد خوفاً ولا أدري ما هو مصدر خوفي ، المهم أجتزت هذه المرحلة الحرجة بالنسبة لي وعندما حملت حقيبتي وأغراضي التي نزعتها عن جسدي شعرت وكأنني أسترجعت حياتي التي سقطت مني قبل الجهاز ، في نفس الوقت شعرت بأنني حكيم زمانه وبطل مغوار في تجاوز هذه العقبة الكبيرة بالنسبة لي وأقول في نفسي “الحمد لله أنت قدها” … جلست على كرسي أخترته بعناية فائقة حيث لا يكن أحداً عن يميني أو عن يساري وكأنني أخشى من الناس من شدة وقع التجربة الأولى في حياتي ، وضعت حقيبتي على الأرض بين رجلي بعد أن تأكدت بأغلاقها ووضع جوازي وبطاقة الصعود للطائرة في جيب قميصي الأمامي … مرت لحظات الإنتظار طويلة وأنا أراقب الناس يتواردون فرادىً وجماعات إلى حيث الصالة التي أجلس بها ، مُلئت الكراسي وجلس على يميني شاب متوسط القامة أنيق الملبس ذو جسم رياضي إلى حد ما ، بدأني بالسلام فرددت عليه بوجل وأنفاسي تكاد تقف داخل صدري وكأنها تابى الخروج ، وعرفت لحظتها إنني ليس كما يقولون “غشيم ومتعافي” وإنما “غشيم ولست متعافي” والسبب رهبة السفر والغربة التي أعترتني منذ أو ودعت أبي وأمي وإبن عمي ، ثم بادرني بسؤال “على فين ” قلت له على … على أأأأأه أمريكا ، فقال وأنا أيضاً ، إلى أي ولاية فقلت له إلى ….. فقال وأنا أيضاً ، عندها تنفست الصعداء إذ وجدت شخصاً سيرافقني على نفس الطائرة ، توالى الحديث بيني وبينه فعرفت أنه إسمه “راشد” وهذه هي المرة الثالثة التي يسافر فيها على نفس الرحلة وأنه مبتعث لتحضير الدكتوراه وتبقى له ثلاث سنوات تقريباً لإنهاء دراسته ، عندها تأكدت بأنني أستطيع أن أستنشق زيادة من الهواء وكذلك إخراجه بسهولة، سمعت صوتي في داخلي يردد أأأأأأأأأأأأأأأأه ما أصعب الفراق وما أحلى أن تجمعك الصدف بمن هو أعلم منك في شيء ما ، سألني هل معك الـ أي تونتي ، فسألته ما هو هذا الأي تونتي ، ثم أخرجت الأوراق التي معي وعرفت منه أنها الورقتين أو الثلاث ورقات التي كما قال لي تعتبر تصريح الإقامة لي وشرح لي كذلك بأن “أف ون F1” يعني طالب ، “أف تو F2” يعني مرافق سواء كان زوجة ، زوج ، أخ ، أو أبناء ، أما الوالد المرافق فيحصل على تاشيرة إسمها “بي ون أو بي تو B1 , B2” ومدة كل تاشيرة خمس سنوات أو حسب ما هو مذكور في ختم التاشيرة ، وعرفت منه أن المرافق ليس مجبراً على الدراسة وإن اراد الدراسة فسيجد الطريق مسهلاً أمامه حسب أنظمة الإبتعاث ، وأما تأشيرة الطالب التي هي “أف ون ” فإن الطالب مجبراً على الدراسة لعدد معين من الساعات في المعهد وأن المعهد الذي سأدرس به هو كفيلي وأن علي الإلتزام بالحضور المتواصل وعدم الغياب ، إذ أن غيابي لعدد محدد من الساعات قد يؤدي إلى فقدي لتصريح الأقامة وإجباري على المغادرة وأنه يسمح للمرافقين بأف تو الدراسة وكذلك البقاء طالما تأشيرة الطالب الأساسي صالحة ، أما الوالد الذي بتأشيرة “بي تو أو بي ون” فلا يسمح له بالبقاء في أمريكا أكثر من ستة أشهر ثم يخرج ويحق له العودة بعدها في أي وقت يشاء لمدة مماثلة ، وهكذا.

سمعنا النداء الداخلي بالتوجه إلى بوابة المغادرة ، نظر إليّ راشد فقال هيا ، أخذت حقيبتي على كتفي ثم بدأت بالجري ، فأمسك بطرف قميصي وقال إلى أين قلت له نلحق ، قال لي تريث من الآن ستتعلم بأن كل شيء تقريباً في البلد الذي ستسافر إليه يحتاج إلى هدوء ونظام ، وزاد أيضاً قلت لك هيا لتستعد فقط ، أنتظر حتى يتم إدخال ذوي الإحتياجات الخاصة ، العوائل ، المجموعات ، ثم يأتي دور الأفراد ، سمعت كلامه وكأنني طالب في الصف الأول الإبتدائي أو هكذا قررت أن أكون إذ أنني الآن برفقة خبير يسره الله لي ، جاء دورنا مسكت جوازي بيدي وكذلك التذكرة وبطاقة الصعود ثم مررنا بجهاز التفتيش أنا وحقيبتي ثم مررت في ممر طويل أوصلني إلى حافلة عرفت من راشد أنها هي التي ستوصلنا إلى الطائرة ، تحركت الحافة بعد أن أمتلئت نساءً ورجالاً وقوفاً وجلوساً ، ثم بدأت تسير بتبختر على أرض المطار وأنا أنظر من خلال النافذة بإنبهار شديد إلى كل ما هو حولي وإلى داخل الحافلة ، بعد دقائق وقفت الحافلة ، فنظرت فإذا أنا وجهاً لوجه أمام الطائرة التي كنت أراها تحلق عالياً فوق قريتنا من بعيد ، فُتح باب الحافلة وبدأ الناس بالنزول فأزدادت ضربات قلبي وإصطكاك ساقي وألتصقت قدماي بأرضية الحافلة لم أنتبه إلا وراشد يسحبني من يدي قائلاً ، ما بك؟ أجبته ها … ها .. لا .. لا شيء خلاص أنزل !! نزلنا ثم صعدنا سلماً يؤدي إلى باب الطائرة ، وعند الباب أستقبلنا المضيف مبتسماً بادلته الإبتسامة وأنا كما يقول عادل إمام ” من جوه شربة ” ، بعد الدخول كانت المفاجأة الكبري لي أن راشد توجه إلى ممر وأنا قادني المضيف إلى ممر آخر ، تسمرت الكلمات على شفتي فبلعتها وتوجهت إلى حيث أشار لي وأنا أتذكر “الضحية” عندما كنت أقودها بمساعدة أبي إلى حيث تلاقي حتفها ، حزنت عليها كثيراً وإنما تراجعت عن حزني بما في قلبي من إيمان بأن هذه هي سنة الحياة لكل ما سخره الله لنا … مشيت بخطوات متثاقلة أحمل حقيبتي على ظهري ، حتى وصلت إلى رقم المقعد المسجل في بطاقتي ، وجهتني المضيفة بأن أضع حقيبتي في الأدراج العلوية وأجلس بالقرب من النافذة ، جلست وبعد لحظات توالى الناس في الدخول حتى إمتلئت جميع المقاعد ، في تلك الأثناء لفت نظري الأوراق التي في جيب المقعد الذي أمامي ، أخذت أقلبها ومنها عرفت بأن علي أن أربط الحزام ، وأن أقرأ إرشادات السلامة في حالات الطواريء لا سمح الله ، أرتعد قلبي وكاد أن يقفز من مكانه ، وأنا أقول في نفسي ” طواريء ، هو أنا ناقص فجعات” ، توكلت على الله وقرأت دعاء السفر ، ثم آية الكرسي فأطمأنت نفسي .. أخذت أنظر حولي وإلى المقاعد في الجانب الآخر من الطائرة ، فرأيت راشداً يجلس بكل ثقة … غبطته على الهدوء الذي يبدوا على وجهة ثم طمأنت نفسي بأنني بإذن الله سأكون مثله في المستقبل القريب ، بادلني النظر ثم أشار لي ما فهمت منه بأنه بعد الإقلاع قد يتبادل المقعد مع الذي يجلس بجانبي ، أغلقت الأبواب وبدأت الطائرة تتحرك وسمعت صوت المحركات يرتفع قليلاً ، ثم جاء الصوت الداخلي بالترحيب بنا على متن الطائرة المغادرة إلى واشنطن – وهي المرحلة الأولى من رحلتي- ، وجاء بعدها تعريف بطاقم الطائرة من قائد إلى ملاحين ثم دعاء السفر ، بعدها ساد صمت رهيب أو ربما أنا شعرت بذلك…. تركز نظري على العالم الخارجي من خلال النافذة ثم بدأت الطائرة تتحرك بسرعة حتى أقلعت عن الأرض ، شعرت بأن أحشائي جميعها نزلت إلى أسفل جزء من جسدي كما كنت أسمع ممن يسافرون كثيراً ، ثم عرفت بعدها بلحظات أن هذا مجرد تهيئات مررت بها ، عرفت أن مدة الرحلة إثنى عشر ساعة قد تزيد قليلاً نقضي خلالها حوالي سبع إلى ثمان ساعات فوق المحيط … أستسلمت للأمر الواقع متسلحاً بثقتي بالله ثم بصديقي الجديد راشد والذي رأيت فيه كل أهلي ، كيف لا وهو في نفس المدينة وفي نفس الجامعة التي سألتحق بها ، شكرت ربي كثيراً على كرمه وعطاءه بأن هيأ لي كل ذلك .

مرالوقت ولم يستطع راشد أن يستبدل مقعده ليكون بجانبي ، فمرت الساعات الأولى ثم أشار لي بأن أذهب إلى مؤخرة الطائرة ، وقفنا نتحدث قليلاً حيث طمأنني أننا بمجرد الوصول إلى واشنطن سيكون بجانبي إلى أن أبدأ دراستي وسيستمر معي حيث سيعرفني على الكثير من الطلبة الذين في نفس المدينة ، شكرته بعمق ثم أخبرني عن تعبئة الأوراق الخاصة بدخول أمريكا وكذلك الورقة الخاصة بالإفصاح عما أحمله معي من نقود أو طعام أوبذور إن كان معي شيئاً من ذلك … بدأ تقديم وجبة طعام فرجعت إلى مقعدي ، تناولت أول وجبة طعام لي في حياتي وأنا في الجو أنظر إلى السحب تحتي ، شعرت بمتعة رائعة بعد أن توارى كل ما كنت أشعر به من خوف بفضل الله ثم بمعرفة راشد ، فتحت الشاشة التي أمامي على فيلم لم أعرف منه غير ماقرأته من ترجمة أدخلتني في نوم عميق عوضت فيه جزءً من ساعات السهر والتنقل التي سبقت سفري … لم أعرف مقدار الساعات التي نمتها ، وإنما صحوت على صوت المذيع الداخلي للطائرة ينبئنا بقربنا من ميناء الوصول ، ساقف هنا وإلى لقاء آخر أخبرك فيه بما مر بي في ميناء الوصول.

للإطلاع علي كامل الحلقات : اضغط هنا

10 تعليق على “رسائل مبتعث – ١

ياسر عبدالعزيز

ذكرتني هذه القصه بمواقف مررت بها خلال اول رحلتة لي إلى أمريكا، ولكنها تختلف قليلاً لكوني مسؤلاً عن زوجتي التي رافقتني فشعرت بزيادة المسوؤليه رغم تمكني من اللغة الانجليزيه. ولكن الغربه تحتاج لأكثر من معرفة باللغه وتتطلب كثيراً من الصبر والاستعداد لتعلم قوانيين وطبائع المجتمع لتتم السلامه والراحه والأمان للطالب.

ناصر

أسلوبك القصصي جميل جداً ومشوق
واصل يا عبدالعزيز

أبوسعود

حلقة ممتعة
متشوقين للتكملة القصة
بانتظارك

عبدالعزيز الصحفي

ياسر عبدالعزيز
شاركنا بعض تجاربك ، علنا نستفيد ونفيد
تحياتي

عبدالعزيز الصحفي

الأخ ناصر
جمل الله أيامك بالسعادة والهناء .
بتفاعلكم ودعمكم نواصل بإذن الله.

عبدالعزيز الصحفي

الأخ أبو سعود
أسعدك الله ورعاك ، سنكمل بإذن الله.
تحياتي.

أبو روز

مبدع كعادتك ماشاء الله

عبدالعزيز الصحفي

الأخ أبو روز
الإبداع في مرورك الكريم.

ابو خالد

تحية كبيرة للاستاذ عبدالعزيز صراحه حاب اسجل إعجابي الشديد برسائلك الجميلة وبأسلوبك الرائع في الكتابه ذكرتني بالأديب الرائع أنيس منصور

عبدالعزيز مبروك الصحفي

الأخ الأستاذ أبو خالد
اشكر لك مرورك الرائع وثناؤك العطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *