تحية محبة واجلال وإكبار لجميع قراء هذه الزاوية الثقافية الاجتماعية.. المليئة بعبق التجارب والخبرات ، المفعمة بالأفكار والأحداث لمشوار الحياة …
ولعل من أهم شروط الكتابة في هذه الزاوية التى خصصتها الصحيفة … أن يكون الكاتب قد أبحر وسافر في حياته حتى هبط اضطراريا في محطة التقاعد …
وبالتأكيد كانت الرحلة طويلة جداً لاتعد بالساعات ولا بالأيام ولا الأشهر….. بل بالسنين الطوال ..
وبالتأكيد كانت مليئة بالمواقف . والأحداث.. والعبر ، مليئة بالأفراح والأتراح … مليئة بلحظات السعادة ولحظات التعاسة … مليئة بالحب والشوق والآهات والحنين .. ولا نستبعد أن اعترض المسار شيئا من الحقد والبغض والكراهية ..
لكن اللبيب من شق طريق رحلته وسط هذه المتناقضات وعبر إلى شاطىء الأمان بسلام ووصل إلى محطته الأخيرة حاملا ثمار انجازاته وخبراته بكل فخر واعتزاز .
وطالما نحن بهذا الصدد .. اسمحوا لي قرّائي الكرام أن أقص عليكم شيئا من أحداث مشوار رحلتي في هذه الحياة التي أقلعت من محطة دارنا في إحدى قرى غران ، وتسمى حارة الفقية ، وكان ذلك في عام 1378 للهجرة.
وكانت هذه الحارة صغيرة وهادئة وجميع سكانها تربطهم علاقة رحم من الدرجة الأولى ، لذلك فإن الجميع يعيشون حياة أسرة واحدة تسودها المحبة ومشاعر الأخوة والتقدير والإحترام.
في فضاء هذه الروح والأجواء نشأت وترعرعت ، فالتحقت بمدرسة موسى بن نصير الإبتدائية ، وهي المدرسة الوحيدة في غران بأكمله آنذاك .. وهنا كان الفضاء أشمل وأوسع وأرحب من محيط حارتي.. إذ أن إمكانية التعارف وتكوين العلاقات والصداقات واردة ، خاصة وانهم يختلفون حتى في بعض مصطلحات كلامهم عن أولئك الذين نشأت بينهم.
في هذه المرحلة شعرت بأن شيئا جديدا طرأ في حياتي فأصبح لدىّ أصدقاء وأصبح بيننا زيارات ولقاءات وأصبح الإحساس يتطلع لمقابلة الزملاء في المدرسة كل يوم.
وبرغم الظروف القاسية وبرغم البيئة التربوية المنفرة اذ أن الضرب والتوبيخ والتخويف والترهيب والإهانة كانت هي الأساليب الملازمة والمصاحبة للعملية التعليمية والتربوية في ذلك الزمن.. فلايمكن أن ترى المعلم إلا وأدوات القمع والعقاب في يده .. وقد ينسى أحيانا أقلام السبورة (الطباشير سابقاً) ، لكنه لا ينسى أبدا عدة وعتاد القمع والترهيب ، ولذلك تعثر كثير من الطلاب بل قطع بعضهم دراسته وأنهى مستقبله وعاد إلى مهنة أبيه في الحقول والمزارع ورعي الماشية.
وقد شاء الله تعالى أن اكون من أولئك الذين صبروا وجاهدوا قسوة الحياة وشظف العيش حتى أكملت دراستي في المرحلة الإبتدائية..
انتقلت بعدها للدراسة والسكن في خليص ..فاتسعت دائرة الأصدقاء والمعارف وبالتالي تنوعت مصادر الثقافة والفكر وحتى مصطلحات الكلام.. أكملت مع هؤلاء الزملاء المرحلتين المتوسطة والثانوية ،وكانت من أجمل مراحل العمر لأن الظروف الحياتية والمادية متقاربة ومتشابة .. فكانت روح الشباب طاغية ورغبة التميز والنجاح هدفنا.. فتحقق بحمدالله ماكنا نصبوا إليه…
انتقلت بعد ذلك إلى مدينة جدة والتحقت بجامعة الملك عبدالعزيز .. وبدأت الدراسة بإسلوبٍ يختلف تماما عن مرحلة التعليم العام إذا أن بناء الشخصية والاعتماد على الذات ورسم طريق المستقبل هو الهدف العام للتعليم الجامعي…
حقيقة كانت هذه المرحلة منعطفا تاريخيا في مشوار حياتي .. إذ أصبحت الأشياء جميعها تختلف… البيئة الدراسية والمسكن ومظاهر الناس وأسلوب حديثهم وتفكيرهم ومأكلهم جميعها تختلف .. فكان لزاما التأقلم مع هذه البيئة الغنية بكل مصادر التمدن والتحضر.
اكملت دراستي وكان في محصلتي رصيد وافر وكبير من المعرفة والثقافة والعلم… وكذلك من الزملاء والأصدقاء والمعارف… والحمدلله
المرحلة العملية :
١- معلما بثانوية عثمان ابن عفان
٢- وكيلا لثانوية الشهداء
٣- مديرا لثانوية روضة المعارف
٤- مديرا لثانوية عمر بن عبدالعزيز
٥-مديرا لثانوية رضوى
٦- مدير عام مجمع الثغر
٧- مدير عام مجمع الأمير محمد بن سعود التعليمي
٨- مدير عام مجمع السلامة التعليمي
٩- مدير عام مجمع الأمير سلطان التعليمي
١٠- مدير عام الأكاديمية السعودية بالجزائر
مجموع سنوات الخدمة 37عاماً
المنعطف الأسمى والأرقى في حياتي ….
كان ذلك عندما بدأت مرحلة الترشيح للعمل في الخارج ، فكانت عملية الاختبارات والمقابلات والمفاضلات تبدأ على مستوى المنطقة ثم على مستوى المملكة في الوزارة.. وكان عدد المتقدمين للترشح 1253 والمطلوب ايفادهم للعمل 8 مدراء. وبحمد الله اجتزت جميع مراحل الترشح وكنت رقم 4 في قائمة المرشحين.
وكان من شروط الإيفاد للخارج الحصول على دورة في المعهد الدبلوماسي بوزارة الخارجية..
اكملت الدورة وخرجت بثقافة وأنظمة وتعليمات تختلف تماما عن رصيد خبراتي ومعارفي السابقة لأن العمل في الخارج يتطلب أن تتذكر دائما أنك تحمل لواء الوطن.. وأن عملك لايمثل شخصك بل يمثل الوطن..
…… باشرت عملي … مديرا للأكاديمية السعودية في الجزائر ، وكان أول لقاء قد أعده السفير السعودي في الجزائر مع وزير الخارجية ووزير التربية والتعليم ومدير عام التعليم بالعاصمة الجزائرية … انتهى اللقاء بالتعريف بسياسة وانظمة دولة المقر. وقد اشترط الجانب الجزائري.. تدريس ثلاثة مواد إلى جانب المنهج السعودي.. المادة الاولى تاريخ الجزائر ثم مادة الفلسفة ومادة اللغة الفرنسية.
تم الاتفاق معهم على أن لاتكون هذه المواد ملزمة للطلاب السعوديين في عملية النجاح والرسوب.. وحقيقة كان التجاوب والتعاون كبيرا في كل المناقشات التى كانت على جدول الأعمال ، حينها شعرت بحجم وثقل ومكانة المملكة في الخارج ، وعلى كافة الأصعدة فحمدت الله وزدت فخرا واعتزازا ببلدي.
بدأ العام الدراسي الأول بعدد 1216 طالب وطالبة وكانت قاعات الدراسة مختلطة بين الإناث والذكور.. لم يكن للأكاديمية أسوار خارجية أو أبواب محكمة الإغلاق
.. لم يكن هناك جدول إشراف على متابعة الطلاب والطالبات والتجسس على يومهم الدراسي لأن مقام الحال لا يستدعي ذلك فالجميع يأتون برغبة جامحة وصادقة من أجل الدراسة فقط ، ومازال احترام العلم والمعلم في ذلك المجتمع قائماً.
لم تكن هناك شواغل ومشتتات لعمل الإدارة تصرفها عن عملها الأساسي ، كان جُل العمل هو المنهح والمعلم والطالب.
لم تسجل الإدارة يوما مخالفة سلوكية على طالبٍ او طالبة ، بالأحرى لايوجد مايشغل الإدارة عن أداء مهامها ، لذلك كان العمل مثاليا وكانت مخرجاته رائعة.
في ختام العام الدراسي الأول أخبرني سعادة السفير بأنه وجه دعوة لجميع السفراء المعتمدين في دولة الجزائر لزيارة الأكاديمية والإطلاع على حضارة المملكة وإنجازاتها ، ومراحل التعليم ومناهجه … عُقد اللقاء وتم وقوف الجميع على سير العمل ومجرياته ، وفي ختام اللقاء كنت أرى في وجوه الضيوف ملامح الدهشة والرضى.
لكنني مازلت اتذكر قول السفير الروسي وكان يتحدث العربية.. إذ قال لي إن مملكتكم إذا عملت عملا اتقنته. حينها شكرته وشعرت بالفخر والاعتزاز وقلت في نفسي كم انتِ عظيمة يابلادي حماك الله ورعاك.
مرت الأيام والسنون سراعا.. وفقت واذا بي على متن رحلة العودة إلى محطة التقاعد ، وليت أني لم افق !
بدايةً كانت الرحلة حزينة للأسف… لم استوعب السير في طريقٍ خطواته ثابتة في مكانها ..
لم احتمل الوقوف في جادة الطريق
لم احتمل السير في طريقٍ مظلمٍ
التفت إلى قاعات المحطة فإذا بأفواجٍ من الناس سبقتني رحلاتهم … نظرت يميناً واذا بافواجٍ أخرى خارج أسوار المحطة ينتظرون رحلاتهم التى ستقودهم حتما يوماً ما إلى نفس القاعة وإلى نفس المصير …
استرخيت قليلا ..وطاف بي أملي …. فقت… لملمتبقايا ذكرياتي….
وحملت انكسار مشاعري …
حطمت كل أحلامي….
لأنني أيقنت أن ماحدث هو صورة مصغرة لدورة الحياة…وأن زينتها أطياف عابرة..
كل شيء زائل… إلا وجهه الكريم
اللهم اختم بالصالحات أعمالنا .. واجعلنا من عبادك المخلصين.
سعيد عناية الله الصحفي