ليس ثمة ما هو أشد ألماً وحزناً على القلب من فقد الأحبة والأصدقاء، حين نواريهم الثرى، حيث المصير المحتوم للبشرية جمعاء، كما قال تعالى: ( كل نفس ذائقة الموت )، وما على المسلم إلا الصبر والرضى والاجتهاد في صلتهم بعد الوفاة بما ينفعهم من دعاءٍ وصدقة.
في يوم الخميس انتقلت روح الجار العزيز أبي عبد الواحد “عبدالحفيظ بن هاديء” من الحياة الدنيا إلى حياة البرزخ، بعد معاناة طويلة مع المرض أحسبه كان فيها صابراً محتسباً، فنسأل الله له الرحمة والمغفرة، وجعل ما أصابه كفارة له، وألهم ذويه الصبر والسلوان.
عبدالحفيظ بن هاديء علم والعلم لا يُعرّف!، فموقع عمله يرحمه الله جعل أهالي المحافظة بأسرها يعرفونه ويتعاملون معه بشكل مباشر وعن قرب، فقد كان صاحب استراحة “قهوة” كما كان يطلق عليها قديماً -واقعة على طريق الهجرة القديم الرابط بين مكة والمدينة عند ثنية غران/، يُقدم فيها الطعام والشراب للمسافرين على هذا الطريق، مما مكن أهالي المحافظة من التعرف عليه وعلى ما كان يمتاز به من حسن الخلق رحمه الله تعالى.
أما أنا فأعرفه معرفة أكثر خصوصية وأدق تفصيلا، حيث أني جاورته في حارة “الطينة” ما يقارب السنة، ثم جاورته بعدها في مخطط غران لأكثر من عقدين من الزمان، فهو من جماعة المسجد في الحيين، وله مساهمات في رفع الأذان، ولا زلت أذكر عبدالحفيظ وهو يقف برداءٍ يظلل به خطيب يوم العيد الشيخ حميد بن نصاح -رحمهما الله جميعاً-، وذلك أنه عند مصادفة العيد لفصل الصيف، والناس في ذلك الزمان لا يكتمل اجتماعهم للصلاة إلا وقد اعتلت الشمس واشتدت حرارتها، فيجتمع على الخطيب جهد القراءة وحرارة الشمس، عندها يكون الخطيب أحوج ما يكون للظل الذي تكفل به الفقيد رحمه الله.
وأيضاً عرفت أبا عبدالواحد “رحمه الله” من خلال علاقته بجدي الشيخ محمد صالح بن عبيد “رحمه الله”، حيث كان أبو عبد الواحد ضيفاً عزيزاً مكرماً عند زيارته لجدي بعد صلاة الجمعة، في علاقة أخوية يسودها المحبة والألفة والإحترام المتبادل بينهما، عليهما من الله الرحمة والمغفرة.
كما حظيت بمعرفة المغفور له “بإذن الله” والتعامل معه عندما كنت معلماً ومديراً لمدرسة موسى بن نصير الابتدائية، فقد كان رحمه الله في متابعة معي دائمة لأولاده وأحفاده، حريصٌ على تعليمهم وتقويم سلوكهم وتربيتهم التربية الصالحة النافعة.
لقد كان رحمه الله صاحب أسلوب مميز في تربية أبنائه، فهو من النوع الذي يجمع بين الشدة التي لا تصل إلى العنف وبين المرونه دون الضعف.
وأذكر له موقفاً طريفاً مع اثنين من أولاده كانا يساعدانه في عمله وهما في سن الطفولة، والأطفال كعادتهم عندما لا يريدون عمل شيء يتظاهرون بالمرض من أجل أن يسمح لهم آباؤهم بالبقاء في المنازل، وبمجرد مغادرة آبائهم يذهبون إلى اللعب مع أقرانهم، وفي أحد الأيام اتفق الأخوان بأن يوهما أباهما بأن لديهم ألم في البطن، ويقوما على حين غفلة من أبيهم بوضع الإصبع في الحلق ليُخرج كل واحد ما في بطنه، ولكن هذه الحيلة لم تنجح مع أبيهما “رحمه الله” ، فقال لهم: القيء علاجه الكي، فتجرأ أحدهما بالموافقة على كيّة المرقام مقابل لعب الكرة مع الأقران، وأما الآخر عندما رأى تألُّم أخيه قال: لقد شُفيت وعوفيت! سأبقى معك في العمل، وأما صاحب الكيّه فقد كانت له المرة الأولى والأخيرة في تحايله على أبيه.
رحمك الله أيها الجار العزيز، فنعم الجار أنت، ونعم المُحسن في تربية أبنائك، أسأل الله أن يجعلهم بارين لك بعد وفاتك. اللهم أرحم عبدالحفيظ برحمتك التي وسعت كل شيء، وأسكنه فسيح جناتك، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.
يا رب ترحم ابن هادي
رحمه بها يدخل الجنات
واجعل صلاحك فالأولادي
يدعوا لأبوهم بعد ما مات
عبدالرحيم إبراهيم الصحفي
مقالات سابقة للكاتب