مما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في بطن أمه على مراحل ثم عند خروجه إلى الدنيا كذلك يمر بمراحل كثيرة بدءً من أول صرخة له حتى نطقه بالشهادة كآخر كلمة يقولها إن يسر الله له ذلك قبل مغادرة هذه الحياة الفانية ، وما بين البداية والنهاية تحصل الكثير من المواقف ، فهل يعي الأغلبية أن بعض تصرفاتهم وما يفعلونه الآن قد تم برمجتهم عليها وهم في بطون أمهاتهم وجزء منه في السنوات الأولى من قدومهم إلى هذه الحياة.
دعونا نبدأ من بداية الحمل فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه ، أن النطفة تمر بستة مراحل تفسيراً لقوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ﴿ 12 ﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ﴿ 13 ﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿ 14 ﴾ سورة المؤمنون، لن أتحدث هنا عن مراحل الخلق وإنما سأتناول ما يمر به الطفل من وقت الولادة إلى بلوغ السابعة وبدء الأمر بالصلاة.
نبدأ بما رواه عبدالله بن عامر حيث قال : دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا فَقَالَتْ هَا تَعَالَ أُعْطِيكَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ قَالَتْ أُعْطِيهِ تَمْرًا فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِهِ شَيْئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ.
وفي العلم الحديث هناك الكثير من الأمثلة والتي تؤكد فهم الطفل لما لكل ما يدور حوله ، ففيدراسة فريدة بجامعة (يال Yale) بأمريكا قام عدد من الباحثين بإجراء تجارب على عدد من الأطفال فوجدوا أن الأطفال ذوي الأعمار التي لا تتعدى الأشهر يستطيعون التفرقة بين الصح والخطأ ، وبين الخير والشر ، والأكثر من ذلك أنهم يساعدون المحسن ويتخلون عن المسيء وأيضاً يعاقبونه وهم في تلك السن الصغيرة ، وهذا يدعونا إلى أن نكون حذرين في تعاملنا مع الأطفال الرضع منذ الولادة بحيث لا نجعلهم يرون إلا الحسن من الفعل ولا يسمعون إلا الطيب من القول ، ولا نأمرهم إلا بما يهذب أخلاقهم ويرفع من شأنهم ويقوي علاقتهم برب العالمين سبحانه وتعالى الذي أنشأهم من العدم ورزقهم بلا حول ولا قوة ، لا منا ولا منهم.
يتبادر إلى أذهان كثير من الناس أن الأطفال لا يفهمون ولا يدركون ما يدور حولهم ، وإنما فيالحقيقة هم يعون كل شيء ويحتفظون به في ذاكرتهم اللاواعية والتي تخزن الملايين من الحزم المعلوماتية في الثانية الواحدة ، وتبقى تلك المعلومات إلى آخر العمر يتصرفون بناء عليها أحياناً، بعضها يمكن إسترجاعة بطريقة واعية وتغييره ، وأغلبها لا يمكن إستراجعة بالطريقة الواعية إنما يقفز إلى العقل الواعي قفزات لا يمكن السيطرة عليها إلا عند من وهبه الله سبحانه وتعالى مقدرة على ذلك سواءً بعلم تعلمه أو موهبة وهبها الله له ، فكل ما يمر على الأطفال بدءً من أشهر الحمل الأولى يؤثر عليهم سواءً من الناحية الغذائية للأم أو التفاعلات النفسية التي تمر بها الأم أثناء الحمل.
وهذا يدعونا إلى أن نكون حريصين كل الحرص في تتبع حركات أطفالنا وسكناتهم وذلك لإكتشاف المواهب التي يتمتعون بها وأن نتعامل معهم على أنهم على قدر كاف من الإدراك الواعي واللاواعي ولهذا فإن غرس الثوابت الدينية والقيم الإجتماعية تبدأ من فترة الحمل ، وكذلك يدعونا هذا إلى أن نبدأ في التعامل مع الأطفال منذ يوم الولادة الأول بتلقينهم الطيب من القولكما ثبت في هديه صلى الله عليه وسلم بتلقين الوليد الأذان والإقامة عند ولادته.
فهل بعد كل هذه الحقائق نعي أن تعاملنا مع الأطفال لا يزال قائم على أنهم لا يفهمون ، وهل هذا سيدعونا إلى تغيير سلوكنا معهم في ما نخزنه في ذاكرتهم ، فنسمع أحياناً من أقرباء وأصدقاء لنا ما يعتبر نوعاً من الكذب مهما حاولوا تبريره مثل قولهم للصغير ، تعال أعطيك وعندما يأتي يمسكونه ، أو عند السؤال عنه من صديق أو قريب قولهم له “قل له ليس موجوداً أو نائماً أو نحوها” وهل يعي إعلامنا الموقر أن ما يعرضه على الأطفال الصغار لا بد أن يكون إيجابياً ويُدرس بعناية كاملة من قِبل مختصين قبل عرضه على شاشات التلفزيون ، وهل يعي الأباء ما في الألعاب الإلكترونية من مخاطر وبرمجة سلبية ودعوة إلى الشر والعنف وفي بعض الأحيان إلى الشرك والتعدي على الإسلام والعياذ بالله ،وهل تتنبه مجلاتنا وجرائدنا إلى ما تنشره من أخبار عن الجرائم بأنواعها وإصرارها على أظهار الصور المقززة لموقع الجريمة والتي يدعمونها أحياناً بنوع السلاح ناشرين صورة مسدساً يخرج منه الدخان أو سكيناً يقطر منها الدم ، وهل يدركون خطورة ذلك على الكبار قبل الصغار بحيث تتم برمجتهم بطريقة سلبية بالتعود على ذلك وإعتباره جزء من الحياة وطريقة سليمه لحل المشكلات ، وقد يؤدي ذلك إلى إستسهال إستخدامه عند الحاجة لحل مشكلاتهم بدلاً من اللجوء إلى الحكمة والتصرف السليم.
علينا أن نحرص كل الحرص على هؤلاء الصغار فإنهم أمانة في أعناقنا ، وأن نحرص على إعطائهم الوقت الكافي من حياتنا ، وعدم الإنشغال عنهم بمشاغل الحياة الأخرى مهما كانت الأسباب لأنهم هم رأس المال المأمول وتعليمهم وتأديبهم وتربيتهم هي التي ستبقى لهم والتي لن يستطيع أحد أن ينتزعها منهم مهما كانت الأحوال أما ما عدا ذلك من متاع الدينا فيمكن إدراكه إن شاء الله إذا تم تهيئتهم التهيئة الصحيحة بالعلم الراقي والخلق الحسن.
رابط دراسة جامعة (يال Yale ) الإمريكية
https://www.youtube.com/watch?v=FRvVFW85IcU
أخوكم : عبدالعزيز مبروك عتيق الصحفي – أمريكا
مقالات سابقة للكاتب