بعد طرح مقالتي (التّقاعد مسيرة عطاء ٍ ولمسة وفاء) ، تعدّدت التّعليقات حول هذا المقال في كلمات رائعة من زميلات وطالبات وأحبّة وقرّاء متابعين ولكن تفرّد من بينها تعليق اهتزّت له مشاعري ختمته أستاذتي بقولها : (.. .ياحبيبتي يا حنان .. ياطالبتي النّجيبة) ..
ويعلم اللّه كم فرحت بالرّدود وكم أشعرتني بالفخر.. ولكنّ تعليق معلمتي غمرني بشعور غريب أحسست حينها أنّ معلّمتي كرّمتني على الملأ (وكأنها قلّدتني وساماً) ..
هذه المعلّمة الرّائعة أسّست قواعد اللّغة العرّبية لديّ في المرحلة الإعداديّة حيث تلمّذت على يديها..
هيّا معي نتعرّف على سرّ تواصلي مع المعلّمة مريم جومر السّوريّة الجنسيّة بعد انقطاع دام (٤٠) عاماً !
في أول يوم دراسي في المرحلة الجديدة التي يثبت فيها الطلبة وجودهم بإحداث الفوضى قبل التعرف على معلمتنا الجديدة ولسوء حظنا كانت الحصة الرابعة – المادة قواعد – ، كتبت ذلك على السبورة ثم بدأنا مهرجان الشغب ، وفجأة وإذا بالباب يُفتح بقوة أفزعتنا وخلال أقل من ثانيةوقفت كل طالبة مكانها وطبعا من يعرف أ٠مريم يعرف ماحدث لنا من الرعب والتأديب الكافي الذي جعلنا نلتزم الصمت والهدوء طيلة أيام دراستنا ، وبعد ذلك سمحت لنا بالجلوس في أماكننا فتنفسنا الصعداء وماهي إلا ثوان قليلة من الهدوء حتى أخذت تلتفت يمنة ويسرة وتنظر باتجاه السبورة تبحث عن شيء ما لانعرفه
ثم سألت بحزم : مافي حوّار؟
كررت سؤالها ونحن ننظر إليها وعلامات الدهشة والاستفهام واضحة على وجوهنا؟
ثم طافت على الطالبات جميعهن بنظراتها المتفحّصة ووقع اختيارها علي وبنبرة حادة ً لم أعهدها في حياتي قالت (قومي هاتي حوّار) .
وقفت برهة ثم انطلقت مسرعة من الفصل لا أعلم ماذا تريد ولا أدري أين أتجه ؟
وألف سؤال في ذهني؟
هذه معلّمة العربي؟
سأكره اللّغة بسببها؟
لقد خفت منها كثيرا؟
وأنا لا أستطيع الفهم في هذا الحال المخيف .
بحثت عمّا تريد في ساحة المدرسة لعلّي أجد شيئاً غريباً قد يكون هو ماتطلبه ، ثم قرّرت الذّهاب إلى غرفة المعلّمات لحل هذا اللّغز .. وغرفة المعلّمات في زمننا الجميل لم يكن الوصول إليها سهلا” بل إنّ دخولها من المحرّمااااات ، وكان لابدّ من المجازفة بالقرب من الغرفة ..
لمحت معلّمة تريد الخروج منها كانت لطيفة معناحضرت حصتها لم تعطنا درسا” تعرّفت علينا وعرّفتنا باسمها أ-أريج معلّمة تاريخ وجغرافيا .. من بعيد استنجدت بها لمعرفة طلب أستاذتي الجديدة الّتي لم نعرف اسمها وأخبرتها بأنها غاضبة جداً وتبحث عن حوار وأمرتني بإحضاره وانا لا أعرفه ، هل هو عصا ستعاقبنا بها ؟ أم انه شيء آخر ليس في قواميس حياتنا؟
ضحكت أستاذتي / أريج وقالت : إنها تريد(الطّباشير) وتجدينها عند المديرة
ذهبت لمديرتنا وأخذت منها ٤ أصابع من الطّباشير وقدّمتها بقولي : تفضلي.. لعل كلمتي تلطّف الغضب الظّاهر في وجهها
وبدأت معلّمتنا درسها الماتع بكتابة الأمثلة وشرحها ثم استخراج القاعدة وحلّ التّمارين بطريقة رائعة وأسلوب شائق أبهر المتلقين فمابالك بعشاق اللغة العربية؟ دق الجرس منهيا” الحصة بقدر هائل من المعلومات المفيدة والواجبات الكثيرة المثيرة ..
استمتعت بشرحها كثيرا”كانت قوية في كل شيء
قوية البنية .. قوية الصوت .. قوية في العطاء .. متمكّنة من مادتها.. سخيّة في الثناء .. حازمة في العقاب ..
كانت مادتها من أجمل المواد وأروعها فاللغة العربية دوحة غناء للأستاذة مريم أطربتنا فيها بأرق وأجمل الألحان ، فرضت معلّمتنا الرائعة علينا احترامها وهيبتها في حصتها لاتسمع همسا” حتّى لكأنّنا نكتم أنفاسنا لنستمتع بكل لحظة من شرح الدروس وكانت الطالبات متلهفات للاستزادة من عطائها الرائع.. ولكن أيضاً هناك من لايجيد الإملاء أو سيّء الخط وثمّة متزوجات مشغولات بأمور أزواجهن وبيوتهن فيبدو منهن بعض التقصير .. أما أنا فقد وجدت ضالّتي وتحقّقت غايتي في دروس اللغة العربيّة وواجباتها الّتي وسّعت مداركي وأضافت لي الكثير الكثير مما لا يمكنني حصره .. وكانت المعلّمة تقوم بعرض دفاتري في الفصل كأفضل ما أنجز من خط جميل وإجابات صحيحة وانعدام الأخطاء الإملائية.. ولصغر سنّي وضآلة جسمي كنت كثيرة الحركة سريعة الاستجابة لتلبية طلبات معلماتي فأعجبت بي وكلّفتني بمتابعة واجبات زميلاتي لتصحيح أخطائهن وجمع الدّفاتر ونقلها إلى غرفة المعلمات ..
كنت أتحجج بحضور معلمة الحصة التي تليها حتى تتمكن كل زميلاتي من إكمال واجباتهن أو أقوم بإكمالها بنفسي لأن عند تقصير الزميلات ومعاقبتهن تحدث لدي بلبلة نفسية لا أعرف وصفها .. وأتوزّع بين حبي لمعلمتي وبين تعاطفي مع زميلاتي.. ثمّ تطورت علاقتي بمعلمتي حتى إنها طلبت مني مساعدتها في أن أحمل الدفاتر معها لبيتها.. شعرت بسعادة بالغة لمرافقة معلّمتي حتى بيتها ولكن ماكان في حسابي أنّ بيتها ليس بالقرب من بيوتنا بل ضمن البيوت النائية..
لم أفكّر بذلك مطلقا” بل كان هدفي مرافقتها ومعرفةعنوان بيتها حتّى أزورها أنا ووالدتي في الإجازة ، وعند عودتي إلى البيت ظهر لي فداحة مافعلت فأنا أمشي في الطريق وحيدة و الطريق موحشة جدا”
يا إلهي ! سأتأخر عن الوصول إلى البيت !
جريت مسرعة حتى وصلت المدرسة ومن المدرسة أسرعت لاهثة إلى بيتنا ..
حمدت الله كثيرا”
لم يشعر أحد بتأخيري
وعن تفاصيل اليوم الدراسي حيث كان والدي يسألنا كل يوم ونحن نتناول وجبة الغداء مع كثير من التّوجيهات وغرس القيم والمبادئ في نفوسنا بطريقة مباشرة أوغير مباشرة ..
حدّثت أبي عن اليوم حتى نهاية الحصّة السّابعة ولم أجرؤ على أخباره بذهابي لبيت معلّمتي الحبيبة ورحت أحدّثه عن شدّتها وحزمها وكيف أنني أحبها وأنزعج من شدّتها مع المقصّرات وكان ردّه أن المعلّمة الحازمة تكون محبّة لطالباتها شديدة الحرص على مصلحتهنّ وهي أدرى بمايناسب الطالبات فتستخدم الطرق المناسبة لعلاج ضعفهنّ العلمي أو تعديل سلوكهنّ..
وكان أبي يحذّرنا من اللّعب والفوضى في الفصل لأن وجودنا فيه بهدف تلقي العلم وإثبات احترامنا لأنفسنا ومعلمينا ما يعكس تربية والدينا وإعدادهم لنا..
مرّ ذلك اليوم بسلام
كنت أحضرالحوار وكل طلبات معلمتي قبل الحصة؛ درأً للعقوبات الغيرالمتوقّعة من معلمتنا الغالية ..
كان سؤالها الدائم حنان مش هون؟ يعني أن أقفز سريعاً وأحضرلها ماتريدقبل أن تكلّف إحدى الطالبات بإحضاره وإذا قصرت تنظرنظرة المغضب وتقول مايلي:
ياحنان حني علينا
شو حنان ؟ ولَك من بيجيب الأغراض غيرك ؟
وعندما أتأخر تهمس معاتبة ماتعيديها تاني.
كان ذلك يسعدني ويشعرني بقيمتي عندها وأنها تبادلني التقدير والاحترام ..
انتهت المرحلة الإعدادية وبدأت الإجازة ونحن في شوق إلى معرفة النتائج في صحف المملكة لزيارة معلماتنا وتوديعهن ولكن ماكل مايتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بمالاتشتهي السفن فقد رحل أبي وودعناإلى الرفيق الأعلى قبل رحيل معلماتي إلى بلادهن وقمن بزيارتنا للعزاء بدل زيارتنا لتوديعهن ..
وهناانتهى عصر الدلال وبدأت المسؤولية وتطبيق قوانين أبي ليبقى اسمه خالداً بعد موته يفوح مسكاًوطيباًوكبرت وانشغلت في متاهات الحياة ولكني لم أنس أصحاب الفضل من أهل ومعلمات وصديقات وفي جلسة ود مع الفاضلة أم أنور أعطتني أرقام هواتف معلماتي وقمت بالتواصل معهن وتشرفت بمتابعتهن للتزود بخبراتهن وحنانهن مابقيت ..
شكراً أستاذتي
سأذكرك وأذكر كل معلّماتي مدى الحياة .
حنان سعد المغربي
مقالات سابقة للكاتب