طلب مني أحد الإخوة في صحيفة غران أن أكتب مقالاً عن البدايات والنهايات لمسيرتي في الحياة العلمية و العملية على أمل أن يستفيد منها الجيل الجديد لعلها تكون حافزاً لهم على تخطي الصعاب نحو النجاح.
المسيره كانت شاقه وأكثر من شاقة .. بدأت الرحلة عندما كان عمري في حدود الست سنوات عام 1380هـ وحينها لم تكن هناك مدرسة في قريتي “المسماة”، فأخذني والدي رحمة الله عليه إلى قرية السليم وأسكنني عند أحذ أصدقائه وكنا مجموعة في حدود الخمسة أشخاص في بيت ذلك الرجل .
أمضيت في تلك المدرسه قرابة الثلاث أشهر حيث توفي الوالد رحمه الله، بعدها انتقلت إلى مدرسة الكامل و سكنت كذلك عند بعض أصدقاء عمي رحمه الله حتى السنه الرابعة حيث لحق بي أخي الأكبر.
وكانت الحياة صعبة للغاية و لكن الله أعاننا على تجاوزها بصبر و عزيمة و مثابرة.
أتممنا المرحلة الابتدائيه هناك ثم انتقلنا إلى رابغ و التحقنا بمدرسة طارق بن زياد المتوسطة ، وكان يُصرف للطالب حينذاك مكافأة شهرية مقدارها 85 ريالاً ، تصرف كل أربعة أشهر.
أتممت المرحلة المتوسطة وكان ترتيبي على المملكة ١١٨ من بين ٣٥ ألف طالب ، ثم انتقلنا إلى مدينة جدة حيث حصلت على شهادة الثانوية من مدرسة الشاطئ ، بعدها انتقلت إلى المنطقة الشرقية والتحقت بكلية البترول والمعادن في الظهران عام 1392هـ وكان القبول بها من الصعوبة بمكان و تخصصت في مجال الفيزياء وكان هذا التخصص غير مرغوب من الطلاب لصعوبته.
أتممت خمس سنوات و تخرجت من تلك الجامعة بامتياز مع مرتبة الشرف الأولى ، وطلب مني رئيس القسم آنذاك أن أعمل معيداً في القسم فقبلت وعملت لمدة عام ، ثم تم ابتعاثي إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية ، حيث حصلت على درجتي الماجستير والدكتوراه في الفيزياء النووية .
وقد أجريت بحث الدكتوراه في مختبرات لوس الموس في ولاية نيومكسيكو وهذه المختبرات هي التي تم فيها تطوير القنابل النووية التي أسقطت على اليابان إبان الحرب العالمية الثانية.
أمضيت في تلك المختبرات ما يقارب العام من البحث والتجارب.
وقد مررت هناك بموقف كان بمثابة تجربة حياه؛ ففي إحدى الليالي قُبيل الفجر ويوم أحد وكانت الطرقات مغطاة بالثلوج وإذا بشخص طاعن في السن يدخل علينا في غرفة المراقبة .. عندما رأه العلماء و الباحثون، انبهروا من مجيئه ووقفوا تقديرًا له.
وكان هذا الشخص هو المدير العام لهذه المختبرات ومن المجموعة التي طورت وأنتجت القنبلة النووية الأولى في أمريكا ، وهو لم يأت في ذلك الوقت لمراقبة سير العمل كما قد يتبادر لذهن القارئ، ففي ذلك البلد لا يحتاجون إلى رقابة لكي يعملوا ، بل كان مجيئه من أجل أن يرى أين وصلت البحوث في هذا المجال و فيما إذا كانت هناك صعوبات تواجه الباحثين لتذليلها ، وكان لهذه الحادثة مدلولها الكبير.
ما لاحظته أيضاً من خلال معايشتي للقوم هناك أن لا مجال للمحسوبية في المناصب وغيرها ، ولكن بقدر ما تعطي تنال ، و هناك لا يوجد تطبيل لفلان أو علان ، ولكن إخلاص وجد ومثابرة ، وهذا سر تطورهم وتقدمهم.
بعد إنهاء الدراسة عدت إلى الجامعة وعملت بها حتى بلوغ سن التقاعد ، و كانت سنوات مفعمة بالعمل الأكاديمي و العلمي الممتع المتجدد و تعاقب الأجيال للدراسة بالجامعة، ولا شك أنني أشعر بسعادة بالغة وأنا أرى بعد عقود من العمل الأكاديمي الكثير من تلامذتي في مناصب عليا في القطاع العام و الخاص يساهمون في خدمة الوطن في مختلف المجالات.
وأخيراً هذه رسالتي من خلاصة تجاربي إلى شباب هذا الوطن الغالي هي:
إننا في هذا الوقت نعيش في رغد من العيش و لله الحمد و المنّة ومع هذا نرى من بعض أولادنا العجب في تقاعسهم عن الجد والاجتهاد.
إن النجاح ليس مرتبط بتوفر الرفاهية من سيارة جديدة وملبس ومأكل وما إلى ذلك .. النجاح عزيمة.. النجاح تخطي الصعاب.. لا تدعوا مغريات الحياة تصدكم عن أن تطوروا أنفسكم وتبنوا مستقبلكم ، وتجتهدوا و تحققوا طموحاتكم في أي مجال ترغبون فيه.
أسأل الله أن يديم علينا وعلى وطننا الغالي الأمن و الأمان و الرخاء و النماء في ظل قيادتنا الرشيدة.
أخوكم: د. محمد علي عبود السلمي