رسائل مبتعث – ٧

الرسالة السابعة

تنبهت إلى نفسي بعد سرحان طويل وأنا أمشي بجانب منصور ، وكل منا غارقاً في عالمه الخاص كنت أفكر في الماضي والحاضر والمستقبل في وقت واحد وللحظات أعلق في الماضي ولا أرى إلا صورة أهلي وقريتي الصغيرة الحالمة وشوارعها المتواضعة التي طالما تمرغت في ترابها صغيراً ومشيت فيها كبيراً ، فأعيش هناك لحظات في الماضي حتى تكاد تنهمر الدموع من عيني ، منطبقاً عليّ قول محمد إقبال

أمسيتُ في الماضي أعيشُ كأنما *** قطعَ الزمانُ طريق أمسي عن غدي

 فأنتفض وأعود إلى حاضري بكل ما فيه من مشاعر لا أدري كيف أصفها حيث يختلط فيها الخوف بالرجاء واليأس بالأمل والعزيمة بالتراخي ، كل هذا وصوت أبو عبدالله يمتزج معها ويتردد صداه في داخل أذناي ، شعرت بكتف منصور يلامس كتفي برفق بضربات خفيفة قائلاً بصوت مسموع أقرب منه إلى الهمس “خليك طبيعي” قلت له مذعوراً “أيش في” فأشار برأسه إلى الطرف المقابل من الشارع فإذا بثلاث سيارات للشرطة تحيط بسيارة صغيرة يقف إلى جوارها ثلاثة أو أربعة أشخاص ، مشيت مذعوراً لثواني وزاد التصاقي بمنصور وكأنني أحتمي به ولا أعرف لماذا فعلت ذلك ، هل لأن منصور أخبر مني ، على الأقل أنه سبقني إلى هنا بثلاثة أسابيع وهم يقولون أقدم منك بيوم أخبر منك بسنة ، واصلنا سيرنا وأنا يخالطني شعور الغريب الخائف وهو لم يرتكب جرماً إلا الغربة ، تذكرت مشاعر الغرباء والذين بعضهم أضطرتهم ظروف الحياة الصعبة لمخالفة أنظمة الإقامة فيكونون دائماً في نفس الشعور الذي عشته الآن ، حمدت الله على ما أنا فيه من نعمة ، فعلى الرغم من أنني غريب إلا أنني أتمتع بحياة أفضل من بعض أهل البلد .. المهم سألت منصور لماذا أنت تهمس هكذا فقال لي ما أدري بس أنفجعت وتخيلت نفسي لو وقفونا وسألونا … واصلنا سيرنا بكل ثقة مصطنعة وإنتقلنا إلى الجانب الآخر من الشارع ومررنا غير بعيد من سيارة الشرطة فلاحظت أن السيارة الصغيرة بها صدمة خفيفة من الامام والكفر الأيمن مخلوع من جراء طلوعها على الرصيف بسرعة – أي أن الموضوع حادث بسيط –  ، مررنا بهدوء وكأننا غير موجودين بالنسبة لهم ولم أرى تجمعاً لأحد حولهم فكل واحد يمر ولا يتوقف سواءً كان ماشياً أو في سيارته ، تعلمت درس جديد بأن التجمعات حول الحوادث تؤدي إلى عرقلة حركة السير في الشارع وفي نفس الوقت تعيق أهل الإختصاص عن أداء عملهم ، مشيت وأنا أقول في نفسي يا سلام على النظام ، ربما يكون هذا الذي أمر به هو الإنبهار من كل شيء جديد ، أيا كان ذلك فهو شيء جميل … وصلنا آخر الشارع ثم أنعطفنا يميناً وسرنا مسافة غير طويلة مروراً بمواقف السيارات حتى وصلنا إلى مدخل السوق .. توقف منصور وأخرج من كيس كان يحمله شاحن الكمبيوتر وقال لي يا أخي تعبت أدور على توصيلة أو فيش أركبه في الشاحن ليتناسب مع أفياش الجدارهنا … نظرت فإذا النوع الذي معه من الأفياش ذات الوصلات المعدنية المدورة (O O)على شكل أسطواني والأفياش في الجدار هنا كلها من النوع المسطح ( I  I ) ، فقلت له أنا كذلك لدي مكينة حلاقة كهربائية نفس الشيء وأيضاً كهربتها 220 فولت … دخلنا السوق وبدأنا نبحث عن محل أدوات كهربائية ، وبعد جهد وجدنا محل على واجهته عدة أشياء كهربائية ولكننا لم نجد عنده مطلبنا .. واصلنا المحاولات حتى دخلنا محل وبالصدفة تكلم البائع معنا بالعربي ، فعرفنا أنه من أحد البلدان العربية وبمحادثة خفيفه سريعة عرّفنا على نفسه وبأن له عشر سنوات هنا ، فقال لنا لن تجدوا مطلبكم هنا لأنه السؤال عن هذه الأشياء نادراً ولا أحد يستخدم المحولات هنا لأن الكهرباء كلها 110 فولت والأفياش من النوع ذو المسامير المسطحة ، وليس لكم إلا أحد أمرين إما طلبه من الإنترنت أو شراء أجهزة جديدة وهذا سيكلفكم ،عرفنا حاجة جديدة بأنه ليس هناك داعي لحمل الأجهزة الكهربائية إن كانت 220 فولت ولابد من إختيار توصيلات بمسامير مسطحة .. قال لنا البائع في المحل سأخرج بعد عشر دقائق لفترة إستراحة الغداء وأنا عازمكم على الغداء معي .. ترددنا ثم وافقنا ، تجولنا قليلاً داخل السوق بلا هدف معين ، إنما كما يسمونه هنا (ويندوا شوبنق) (Window Shopping) أي التسوق من النافذة ، يعني بالعربي “متسكعين” أو متمشين بعد تهذيب الكلمة .. بعد إنقضاء العشر دقائق رجعنا فوجدناه في إنتظارنا عند باب المحل … أخذنا إلى الدور الثاني من السوق حيث جناح الطعام وهو عبارة عن عدة محلات متجاورة تقدم وجبات خفيفة مختلفة وهناك عدة كراسي في وسط الساحة بحيث كل واحد يأخذ طلبه ويتناول طعامه ثم يحمل الصحون الورقية ويرميها في سلة النفايات … طلبنا دجاج على الطريقة الصينية طبعاً بمساعدة البائع … بعد أن جلسنا عرف أننا من السعودية فقال لنا أنا خوكم “مدحت” من ….. قدمت إلى هنا بهدف العمل والدراسة فقضيت الأربع سنوات الأولى لم أترك عملاً إلا أشتغلت فيه لأن شهادتي لم تكن تتعدى الثانوية فعملت في غسيل الصحون في المطاعم ، ثم بعد فترة أستخرجت رخصة قيادة وعملت سائق تكسي وخلالها واصلت دراستي الجامعة حتى حصلت على البكالوريس في إدارة الأعمال وها أنا أعمل هنا بائع بدوام جزئي بواقع يومين في نهاية الأسبوع ، وفي نفس الوقت أعمل على التاكسي وأواصل دراسة الماجستير في التسويق وأعمل لمدة ثمان ساعات أسبوعياً مساعداً للبروفيسور في مكتبه ، وتبقى لي سنة واحدة فقط .. تعجبنا من مكافحته وإصراره ، فأكمل حديثه قائلاً بأنه لن يتوقف حتى يحصل على الدكتوراه لأن لديه هدف بأن يطور نفسه إلى أعلى الدرجات … نظرت إلى منصور وهو نظر إلي وكأننا فهمنا بعضنا ،.. نظر مدحت إلى ساعته ثم أستأذن بسرعة بعد أن أعطانا رقم جواله عارضاً علينا الإتصال به لأي خدمة نحتاجتها .. شكرناه على كرمه وحسن تعامله معنا ، ذهب وتركنا جالسين نكمل أكلنا .. عرفت من منصور ، أنه لم يبدأ الدراسة إلى الآن ولكنه ذهب إلى المعهد في ثالث يوم من وصوله وهو اليوم الذي قابل فيه راشد – فقاطعته وقلت له نسيت أن أسالك ، كيف أنك قابلت راشد وهو كان في السعودية ، فقال لي بأن راشد ذهب للسعودية فقط لمدة أسبوع لحالة طارئة ثم عاد معك على نفس الرحلة – فأكمل منصور حديثه بأنه قدم أوراقه وطلبوا منه مراجعتهم عند بدء الدراسة والذي سيكون يوم الاثنين القادم ، وعرفت منه أيضاً بأن الدراسة سوف تبدأ فعلياً بعد أسبوع من يوم الاثنين القادم ، ولابد أن أذهب يوم الأثنين إلى المعهد لتقديم أوراقي وإكمال إجراءاتي ، تحدثنا أنا ومنصور كثيراً ، لم تكن ظروفه بعيدة عني وإنما هو قدم من العلا والتي تعتبر مدينة نسبة إلى قريتي الحالمة … قلت لمنصور أرأيت كيف هذا الرجل مكافح ، وأنا وأنت خائفين من دراسة الإنجليزي يعني أنا وأنت أيش نقول عن نفسنا …تحدثنا كثيراً ، لم نترك شيئاً إلا وتحدثنا فيه ، فلقد أرتحت لمنصور وشعرت بأنني وجدت أخاً متقارب معي في العمر وفي كثير من الأشياء فأتقنا على أن يترك السكن الذي هو فيه الآن ونأخذ شقة صغيرة بجوار الجامعة ، ونبدأ صداقة وأخوة مع بعض .. رجعنا إلى الفندق وكانت الشمس قد قاربت على المغيب ، ودعت منصور على أن نتقابل يوم الأثنين بعد ذهابي إلى معهد اللغة .. دخلت الفندق وتوجهت إلى غرفتي مباشرة ، مقرراً أن أبقى بها حتى يوم الأثنين مقتصراً على الأكل الخفيف الموجود عندي ، يعني بسكويت وكيك وجبنه وخبز ، وفي نفس الوقت أتخذت قراراً قوياً بأن أكتب خطتي الدراسية وأهدافي من الآن ، وبدأت فعلاً في التطبيق… سوف أتأخر عليك في الكتابة لأنني كما أخبرني منصور سأكون مشغولاً في الأسبوع الأول في المعهد …. إلى اللقاء …

للإطلاع علي الحلقات السابقة : اضغط هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *