التناص والسرقات الشعرية

يخلط البعض بين مفهومي السرقات الشعرية والتناص، رغم أن هناك فرقًا بين المصطلحين، وهذا الفرق دقيق يمكن أن نتبينه من خلال مناقشة الموضوع والوصول إلى نتائج دقيقة حول المصطلحين.

يقول (علي) صديقي من المغرب في المجلة العربية: (إن المفاهيم النقدية الغربية التي سعى بعض النقّاد العرب المعاصرين إلى تأصيلها، بالبحث لها عن أصول وسوابق في التراث النقدي والبلاغي العربي كثيرة ومتعددة، منها: «التناص»، و«الاختلاف»، و«النحوية»، و«الأثر»، و«موت المؤلف»، وغيرها، أما النقاد العرب الذين قاموا بتأصيل هذه المفاهيم فهم كُثر ويصعب حصرهم، غير أنهم يكادون يُجمِعون على أن التراث النقدي والبلاغي العربي حافل بالنظريات والمفاهيم النقدية، ومن الضروري العودة إليه للكشف عما فيه من أصول للنظريات والمفاهيم النقدية الغربية الحديثة، وإعادة إدماجها في النقد الحديث، غير أن أكثر هذه المفاهيم تعرضًّا للتأصيل في النقد العربي المعاصر هو مفهوم (التناص)؛ وقد جرى تأصيله عن طريق ربطه بمفهوم «السرقات» التراثي، وبما يرتبط به من مفاهيم أخرى، مثل: «الاقتباس»، و«التلميح»، و«التضمين»، و«الاحتذاء»، وذهب هؤلاء النقّاد إلى أن النقّاد العرب القدامى عرفوا فكرة التناص في مفهومها وأبعادها ووظائفها، وإن كانوا لم يصطنعوا هذا المصطلح الغربي، وأن مفهوم السرقات يعود أصلًا لمفهوم التناص، غير أن الدراسة المتفحّصة لمفهومي السرقات والتناص تكشف عن وجود اختلافات جوهرية بينهما، تجعل من المتعذّر النظر إلى السرقات؛ باعتبارها تشكّل الصورة العربية القديمة للتناص؛ فالشروط التاريخية والخلفيات المعرفية والثقافية التي تحكّمت في نشأة المفهومين مختلفة، وهذا ما تنبّه إليه عدد من النقّاد والباحثين العرب، وفي هذا السياق، يؤكد (محمد مفتاح) أن نظرية التناص تحكّمت في نشوئها شروط اجتماعية، وفلسفية، وثقافية، وسياسية خاصة، مثلما أن السرقات الأدبية وراءها خلفيات اجتماعية وثقافية وسياسية خاصة، «وعليه، فإنه من مجانبة الوعي التاريخي ومنطق التاريخ أن تقع الموازنة بين نشأة وتطور دراسات السرقات الأدبية في العصر العباسي، وبين نظرية التناص التي هي وليدة القرن العشرين، فمفهوم السرقات استمر أدبيًّا، وجماليًّا، وأخلاقيًّا، بناءً على محدداته، أما نظرية التناص فهي أدبية وفلسفية يهدف الجانب الفلسفي منها إلى نسف بعض المبادئ التي قامت عليها العقلانية الأوروبية الحديثة والمعاصرة، لذلك فإنه ينبغي ألا يتخذ مفهوم الإنتاج وإعادة الإنتاج، والهدم والبناء مطية وذريعة في ترسيخ المفاهيم النقدية العباسية؛ باعتبارها سبقت ما يوجد لدى الأوروبيين.

ويتفق كثير من الباحثين على أن دراسة السرقات في النقد العربي القديم دراسة منهجية لم تظهر إلا في العصر العباسي، وأن هذه اللفظة لم تنتشر إلا عندما اشتدت الخصومة حول أبي تمام بين أنصار القديم وأنصار الحديث، ويقول محمد مندور: “والذي نظنه هو أن دراسة السرقات دراسة منهجية لم تظهر إلا عندما ظهر أبو تمام؛ والدليل قيام خصومة عنيفة حول هذا الشاعر، فكان المؤلفون متعصبين لأبي تمام ومذهب البديع، أو للبحتري وعمود الشعر”.

وقد امتدت المنافسة بين أنصار القديم وأنصار الحديث من الشعراء إلى البلاغيين ونقّاد الشعر؛ فكان العلم بالسرقات الشعرية والتمييز بين أصنافها ومراتبها شرط إثبات تفوق الناقد ورسوخه في العلم بالشعر. فالصراع بين القديم والحديث وأنصار كل منهما كان عنصراً حاسماً في نشأة مفهوم السرقات.

وقد قسم القدماء السرقات إلى عدة أنواع، وعبروا عنها بجملة من الألفاظ، مثل: «الأخذ»، و«الاتفاق»، و«الاستمداد»، و«الاستعانة»، و«الاحتذاء» وغيرها، غير أنهم اتفقوا على أن المعاني المشتركة بين الناس والمتداولة فيما بينهم لا تكون فيها السرقة؛ فقد ميّز القاضي الجرجاني بين نوعين من المعاني، هما: المعاني المشتركة بين الناس اشتراكا عامًّا، والمعاني التي سبق إليها المتقدّم فأبدعها وابتكرها، لكنها أصبحت بعده متداولة ومستعملة بكثرة، وكلا المعنيين تنتفي فيهما السرقة. ويتفق عبد القاهر الجرجاني مع سلفه القاضي الجرجاني في أن المعاني المشتركة والمتداولة بين الناس لا سرقة فيها. هذا هو باختصار مفهوم السرقات في التراث النقدي والبلاغي العربي، وهذه هي ظروفه التي نشأ فيها.

أما التناص فهو مفهوم غربي ما بعد حداثي، تحكّمت في نشأته ظروف تاريخية محددة، وتحولات فكرية وفلسفية أدى تجاهلها وإغفالها إلى سوء فهمه وتحريفه، والاعتقاد بأنه السرقات التي تحدث عنها القدامى. ويضع النقاد عددًا من الفروق بين المفهومين، أهمها: اختلاف السرقات والتناص من حيث حكم القيمة؛ فالسرقات الشعرية تعد من النقائص، وهذا واضح من خلال اعتبار القاضي الجرجاني لها «داء قديمًا»، و«عيبًا عتيقًا»؛ ولذلك فهي مذمومة، ويجب على الشاعر تفاديها. أما التناص، فبعيد كل البعد عن هذه المعاني، وما يراد به منه هو نقيضها، فهو امتصاص النص غيره من النصوص وتفاعله معها، بشكل يدل على سعة اطلاع المبدع وثقافته، ولذلك فهو محمود ولا مفر للمبدع منه.

كما يختلفان من حيث المنهج؛ فالسرقات تعتمد المنهج التاريخي التأثري، والسبق الزمني، وهكذا يكون اللاحق هو السارق، والسابق هو المبدع، ولهذا علاقة بالصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث الذي أشرنا إليه سابقاً، أما التناص فلا شأن له بهذا الصراع ولا بالسبق الزمني، فمنهجه وظيفي؛ لا يهتم بالنص المأخوذ منه، أو النص الغائب، وإنما كل همه النص الجديد الذي امتصّ النصوص الأخرى وحوّلها. ويختلفان كذلك من حيث الوعي والقصدية؛ فإذا كان الأخذ في السرقات الشعرية يتم في الغالب عن وعي وقصد، ولذلك يعد الآخذ سارقًا، فإن التناص قد يكون عن قصد ووعي، ولكنه في الغالب يكون عن غير وعي. والنتيجة التي يخلص إليها هؤلاء النقاد الذين رصدوا هذه الفروق بين السرقات الشعرية والتناص، هي أن السرقات الشعرية بمفهومها المعروف في تراثنا النقدي والبلاغي ليست هي الصورة القديمة أو العربية للتناص، وليست رديفاً له، وإن تشابها شكلاً وظاهراً).

ويذكر الدكتور حلمي القاعود أن صاحبة الريادة في قضية الإرجاء أو ما يسمى بعملية التناص أو تداخل النصوص هي جوليا كرستيفا، وموجز هذه العملية هو (أن النص مجموعة من النصوص أو لوحة فيسفسائية من النصوص ..)، ويرى عبد الله الغذامي: (أن مصطلح التناص يتلخص في أن النصوص تشير إلى نصوص أخرى، مثلما أن الإشارات تشير إلى إشارات أخرى، وليس إلى الأشياء المعنية المباشرة)، ويُشير خليل الموسى إلى وجودِ فرْقٍ آخرَ في “القيمة”؛ ذلك أنَّ ناقِد السَّرِقة الأدبيَّة إنَّما يَسعى إلى استِنكار عمَلِ السارِق وإدانَتِه، في حين أنَّ ناقِد التناصِّ يَقصِد إظهار البُعد الإبداعيِّ في الإنتاج.

ويرى إبراهيم الحقيل مؤلف كتاب «السرقات الشعرية والتناص» أن نظرية السرقات الشعرية كانت منبثقة من الغض من المحدث الجديد، وتقابلها حتمية التغيير والتطور الذي لحق بالمجتمع العربي، فتجلّت تلك النظرية ولم تخبُ إلا بخبو الشعر، وذهاب دولته في عصور الانحطاط، إلا أن نظرية التناص قد فتحت آفاقًا جديدة في الدرس النقدي للأدب، ووجدت صدى كبيرًا في الغرب والشرق، تمثّل في خروج نظرية التفكيك أو التقويض من عباءتها فكانت بحق نظرية خلق وبناء.

ويرى المؤلف أن التناص مصطلح فرنسي ظهر في المرحلة التي وسمت بـ (ما بعد البنيوية)، كما يعد مصطلحًا وسم تلك المرحلة بميسمه، والترجمة الحرفية للتناص (البينصة)، وكان ظهوره على يد البلغارية الأصل الفرنسية الجنسية، جوليا كريستيفا، ويشير الكتاب الى نقاط التقاطع بين السرقات الشعرية والتناص، ولعل أبرزها: يستطيع الناقد والمتلقي توظيف النظريتين في معالجة جميع النصوص، سواء القديمة أو التراثية أو الحديثة المعاصرة، وتحكُّم السرقات الشعرية والتناص في تتبعها للنصوص.

أما مسارات التوازي بين نظرية السرقات الشعرية والتناص، فيحددها المؤلف بالمسار التاريخي والمحضن الحضاري، والوسط النقدي، والمرجعية الفكرية، واختلاف الحكم من حيث الحكم الأخلاقي.

أما الاختلاف فهو من حيث المنهج، فالسرقات تعتمد على المنهج التاريخي التأثري، والسبق الزمني، أما التناص فمنهجه وظيفي، لا يهتم بالنص المأخوذ منه أو النص الغائب، وإنما كل همه النص الجديد الذي امتص النصوص الأخرى وحولها. وهناك اختلاف من حيث الوعي والقصدية، فالسرقات تتم في الغالب عن وعي وقصد، أما التناص فقد يكون عن قصد ووعي.

ويتضح مما سبق أن السرقات تعد عيبًا ونقيصة عند الشاعر أو الكاتب أو الأديب، أما التناص فهو من إبداع الشاعر أو الكاتب أو الفنان الذي كل همّه النص الجديد الذي امتص النصوص الأخرى وحولها وأعاد إنتاجها.

د. سلوم النفيعي

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “التناص والسرقات الشعرية

أحمد بن مهنا

مقالة مميزة ، واعتقد أنها الأولى من نوعها فيما تنشره صحيفة غران لمجتمع قرائها في محافظة خليص .
ولاشك أن المطلع على الأدب شعره ونثره يُعجب بقراءة مقالة كهذه ، ومن يخلط بين السرقة والتناص عليه قراءة هذه المقالة وسبزول اللبس عنده ، وتعليقا أقول ومن وجهة نظري الخاصة : أن التناص أقرب إلى تأثر الأديب والشاعر بثقافته وبيئته ، فيظهر ذلك التأثر فيما يقول .. وهو شيء جميل أراه ، يجعل للنص تقاسيم وجه وملامح تخصه وتضع علامات نسب عليه! تميزه وتضيف لرصيد القارئ من الالتفاتات الماتعة في كون الأدباء الواسع.

شكرا للكاتب الدكتور سلوم النفيعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *