(1) … أيام ثلاثة بين التاريخ والآثار، بين الحضارة والأدب قضيناها في رحاب (خليص) المحافظة الأنيقة على درب الحاج التي تبعد عن مكة المكرمة حوالي (مائة كيلومتر)، وتبعد عن جدة حوالي (90 كيلومتراً) وهي إحدى محافظات منطقة مكة المكرمة.
ثلاثة أيام أتاحتها لنا اللجنة الثقافية بخليص والتابعة لنادي جدة الأدبي، والتي بدأت مسيرتها الثقافية منذ العام 1429هـ وتنامت وتطورت في إدارتها وفعالياتها عبر اثنتي عشرة سنة حتى هذا التاريخ 1441هـ، وفي عهد الإدارة الثالثة التي يقودها الأديب المثقف والإداري المتألق الأستاذ عبدالرحيم نافع الصبحي وفريقه الإداري وشباب المحافظة والمهتمين بالمجال التاريخي والثقافي عبر هذا الملتقى الأول من نوعه في هذه المحافظة، وعلى مستوى اللجان الثقافية التابعة للأندية الأدبية.
ثلاثة أيام إبداعية في فكرتها وفي تنفيذها، وفي نتائجها المعرفية والثقافية والاجتماعية، حملت لنا المزيد والمزيد من العطاء والانتماء لتحقيق الرؤية العصرية التي تعيشها بلادنا السعودية/ رؤية 2030 ومراميها الثقافية والاجتماعية والتي انطلقت من أسس ماضوية وآنوية ومستقبلية كما وضحها سمو ولي العهد: لدينا عمق تاريخي ضخم انطلق منه الكثير من الحضارات والتاريخ!!
(2) منذ الثلاثاء 16/6 وحتى الخميس 18/6، احتضنت (خليص) – المكان والإنسان- فعاليات الملتقى الثقافي تحت شعار (خليص تاريخ وأدب) بمشاركة أبرز الأسماء التاريخية والبلدانية والآثارية والأدبية لتقديم أوراق عمل وبحوث علمية حول خليص التاريخ والآثار والآداب شعراً ونثراً في تظاهرة ثقافية واجتماعية احتضنتها جامعة جدة/ فرع خليص، وبحضور ومشاركة العديد من الرموز الفكرية والأدبية المهتمين بهذه المحاور الحضارية.
وبين أوراق عمل وبحوث وحوارات ونقاشات، وزيارات آثارية والتعرف على المواقع والفضاءات المحيطة بـ (درب النبوة) مرت هذه الأيام الثلاثة سريعة مبهجة وذات قيمة معرفية لا يمكن عبورها الذاكرة.
فقد تعرفنا على قامات أدبية وفكرية أمثال الدكتور الشيخ أحمد النعماني صاحب الإنتاج المعرفي الوفير من كتابات تاريخية وتحقيق مواضع نبوية، ودراسات عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وأمثال الباحث الأستاذ عبدالله الشنقيطي صاحب الدراسات والأبحاث المتعلقة بالسيرة النبوية وآخرها عن ( أحماء المدينة المنورة ) التي ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمثال الباحث مهدي القرشي المهتم بالمواضع والمواطئ النبوية فيما حول مكة المكرمة حيث الجموم ووادي سرف، ووادي فاطمة .
والدكتورة وفاء الرحيلي الباحثة في تاريخ المغرب الأندلسي والأستاذة بجامعة جدة/ فرع خليص والمهتمة بالتاريخ والآثار ولها العديد من الإصدارات مثل رحلة الكتاب ما بين الشرق والأندلس، والعجيب في التراث التاريخي.
نعم، لقد مرت هذه الأيام المباركة بوقوفنا الشخصي – مع ضيوف الملتقى – على المواطئ والمعالم الآثارية والحضارية التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، حيث درب الأنبياء، وثنية غزال، ووادي الكديد وجبل جمدان، وثنية لفت، وثنية الجيش، والأميال العباسية.
ومن كل ذلك خرجنا برؤية حضارية تربط بين التاريخ الورقي المكتوب والتاريخ العيني/ الواقعي في ثنائية معرفية تزيدنا أفقاً وأبعاداً حضارية وآثارية عن هذه المحافظة العريقة في التاريخ الإسلامي.
(3) وضمن هذه الجولات السياحية/ الآثارية، والمناقشات الحوارية حول أوراق العمل، كان لنا الكثير من الإضاءات التاريخية.
ففي ورقة الأستاذ عبدالله الشنقيطي اقترحت مسمَّى (المواطئ النبوية) بدل (الأعطار النبوية) وأقصد بها الديار والأماكن التي وطئها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في قدومه وإيابه ما بين المدينة ومكة وأكدت على ضرورة التحقيق التاريخي لهذه المواطئ ولا نكتفي بالسرد والنقل للمقولات التاريخية، وأثنيت على فكرة الباحث عندما طلب بالتوأمة بين جبلي (جمدان في خليص) و(أحد في المدينة) فكلاهما مر بهما رسول الله، وكلاهما ورد عنهما حديث نبوي شريف ثابت الصحة والإسناد.
وفي ورقة الأستاذ مهدي القرشي أعلنت ميلي لمسمى خليص أنه نسبة للخلاص من العناء والتعب، فعندما يصل المسافر من المدينة المنورة إلى هذا الموضع يستريح ويخلص من تعب الطريق لأنه منطقة كثيرة الماء والزروع والثمار كما يقول البلدانيون. وقد أكدت هذا المعنى في بيت من شعري الذي شاركت به في مسابقة الشعر حيث قلت:
“سموك من قِدَمٍ خليص محجةٍ فخصلت من وجع ومن وعثاء”
وفي ورقة الدكتورة وفاء الرحيلي أثنيت على منهجيتها العلمية وتحديد المصطلحات، وتقديم خطة عمل مقترحة للاستدامة الثقافية في خليص من خلال العديد من البرامج والآليات التنفيذية ومؤشرات الأداء والقياس، وطالبت بأن تكون هذه الورقة هي التوصيات الختامية للملتقى.
وفي ورقة الشيخ الدكتور أحمد النعماني عن الأميال العباسية ناديت بضرورة وجود فرع لهيئة السياحة والتراث الوطني في هذه المحافظة ومطالبة الأقسام الآثارية في جامعاتنا بتبني مشروع التنقيب والحفر عن هذه الآثار وتحقيقها والكشف عما فيها من نقوش وكتابات مطمورة تحت الرمال.
وعلى أية حال فهذه المداخلات والتأملات المعرفية والحضارية لم تكن لتتوارد على الخاطر لولا قيمة البحث المكتوب والجهد الملموس في هذه الأوراق التاريخية والحضارية.
أما أنا (كباحث) مشارك في أعمال هذا الملتقى فقد قدمت ورقة عن (الظاهرة السردية في خليص – قراءة تتبعية) تحدثت فيها عن المحافظة وتراثها الثقافي والمعرفي- والحركة التعليمية التي أفرزت مجموعة من الأدباء الذين كتبوا في الفضاءات السردية (القصة – الرواية – المسرح) ووقفنا عند أربعة منهم وهم: محمد علي الشيخ (القاص) وسلمان الطياري (الروائي) وعبدالعزيز الصحفي (القاص) وزينب الجغثمي (المسرح) وقمنا بتحليل ودراسة إنتاجهم والوقوف على أبرز المضامين والجماليات الفنية والأسلوبية.
(4) وأخيراً، فقد كنا في لقاء ثقافي متميز في موضوعه متميز في تنفيذه والإشراف عليه من قبل اللجنة الثقافية، متميز في حضوره ومشاركة المهتمين بهذه الجوانب الحضارية والآثارية وبعض المهتمين بالسياحة والإرشاد السياحي والنقاد وكتاب القصة والأدباء الشعراء والمؤرخين من أبناء المحافظة.
وقبل أن أضع القلم لابد من الإشارة إلى بعض المقترحات التي نعتقد أنها ستسهم في تطوير المحافظة سياحياً واجتماعياً وهي:
أولاً: إنشاء فرع لهيئة السياحة والتراث الوطني في المحافظة.
ثانياً: قيام الأقسام الآثارية والحضارية في جامعاتنا بجولات ودراسات وبحوث تحقيقية عن هذه الآثار النبوية في خليص وتشجيع طلاب الدراسات العليا على البحوث في هذه المحافظة.
ثالثاً: أن تقوم البلدية بتسمية الشوارع والمراكز التجارية والمؤسسات والمساجد بأسماء الجبال والوديان والآثار الأثرية وإعداد الأدلة للتعريف بها ونشرها بين أفراد المجتمع.
وقبل أن نودع قراءنا الأعزاء لابد من شكر كل من له يد في إنجاح هذا الملتقى: سعادة محافظ خليص الدكتور فيصل الحازمي الداعم الأساس معنوياً وتواجداً وسنداً وحضوراً لافتتاح فعالياته.
واللجنة الثقافية رئيساً وأعضاءً ومشاركين في المعرض التصويري، والجدول التزميني للفعاليات، والجولات السياحية والكرم الحاتمي طوال أيام الملتقى.
وجامعة جدة – كلية العلوم والآداب فرع خليص الذين استضافوا الفعاليات طوال أيام الملتقى.
وأول الداعمين لهذا النجاح الراعي الماسي لهذه الفعالية مؤسسة الصالحات الخيرية لصاحبها صالح حمزة صيرفي.
وهكذا يكون التكامل الاجتماعي والثقافي والأكاديمي والخيري سبباً في النجاحات المتحققة والمأمولة مستقبلاً ..وفق الله الجميع، والحمد لله رب العالمين.