كتب كورماك مكارثي روايته العظيمة (the road:الطريق ) والتي قد مُثلت فيلماً عُرض عام (2009) بنفس الاسم ..
وتتحدث الرواية عن كارثة كونية.. تصيب الأرض ..فيفنى الشجر والحيوان جراءها .. ويصبح الغذاء عزيزا…حشر الروائي الإنسان أمام أولوياته ومبادئه ..وفي ظل تفشي الجوع تنشأ عصابات آكلي البشر .. وخلال هذه الأجواء يتحرك أب مع ابنه لمحاولة النجاة والبحث عن مكان قصي .. فما لبثا أن وجدا طعاما في قبوٍ مستتر .. وقتها ظهرت على الأب الطيب علائم الجشع ..فكلما ظهر لهما جائع _على حافة الموت _في الطريق رفض مشاركته الطعام ..فالإنسان إن تخلّى عن مبادئه وإنسانيته بدت إنحرافاته السلوكية من أجل حاجته ومصلحته ولكن تخلُص الرواية أن الإنسان (لن ولا) يستطيع الحياة دون أن يتشارك الإنسانية مع الأخرين وإلا لأصبحت الحياة على هذا الكوكب غير ممكنة .
أتذكر مشاهد الفيلم وأنا أقرأ ردود الناس الناقمة خلال جائحة كورونا ضد العمال في بلادنا .. وموجة من السباب والشتائم الموجهة إليهم وأنهم سبب كل بلاء يحل علينا .. وعن تكدسهم وتكاثرهم سواء العمال النظاميين أو حتى المخالفين.. ولكن مهلا كيف تواجدت هذه الأعداد منهم ؟!
ألم يكدسهم (رجل أعمال ) جعل همه الكسب بنسبة (100%) فوضعهم في مبانٍ وغرف معدودة حتى بلغ بأحدهم أن حشر (٩٥) وافدا في أربع غرف صغيرة بكل قبح إنساني .. وبدل أن تُوجه غضب الناس تجاهه نالت من الحلقة الأضعف/العامل .. و الذي يأتي مضطرا من بيئات فقيرة وبعضها يتفشى فيها الجهل فيكون بحاجة إلى توجيه وتدريب ومراقبة انضباطيته من قبل كفيله .. لوقف تداعيات … تسببها فوضى تجمعاتهم .. وحماية البلاد والعباد من الأوبئة وأي جوائح قادمة .. وأما مخالفي الإقامة ..فنحن من خلقنا لهم بيئة…يعملون في منازلنا وفي محالنا وفي الرعي وفي كل شاردة وواردة من شرايين حياتنا التي تحتاج إلى معاون .. أو حتى التي تكون خلف جدران ومخابئ لها واجهات إستهلاكية (لمواطنين ) لإنتاج مواد مغشوشة ومضرة ..
ومن جهة أخرى الأرقام الفلكية لكل طلب تقديم عامل / عاملة .. من مكاتب الإستقدام .. وبمقارنة سريعة مع دول الخليج نجد البون الكبير ..
الآن _بعدما عرضت عليكم الأدلة الدامغة عن المسبب الحقيقي لظهور هذه الطبقة _فلنصطف ونشتم أنفسنا التي تسببت بهذه الكارثة الإنسانية .
تتوارى الإنسانية إن لاحت المصالح المتضاربة.. فاثْبُتْ.. وفتش عن الحقيقة .. قبل أن تصلك مفتتة .. وغير واضحة بسبب هذا القانون ( المصلحة قبل كل شيء) .. فما يحدث من تهجم على الجالية البرماوية .. وإتهامها بأبشع التهم .. بل و مطالبة بعضهم مغادرتها البلاد … شاهد على ذلك .. فمن هم (البرماوية ) أو البورميون الروهينجا .. وما سبب تكدسهم في بؤرة النكاسة ؟!
كلنا يعرف أنهم هاجروا من بلدهم بورما بعدما أثخنت و استفحلت آلة التعذيب البوذية فيهم .. فقدموا البلاد على دفعات في فترات ماضية فارين بدينهم .. وكان التعاطف_ في تلك الأثناء_ أبلغ _ في إستضافتهم _ من محاولة النقاش حول كيفية موائمتهم وإعتبارهم وجودا ممتد سيتداخل مع النسيج السكاني .. فحصلت المشكلة تاليا في توثيق هوياتهم خصوصا لمن حملوا الهويات البيضاء التي منحت لهم مدة ستة أشهر كتنظيم محدود لوجودهم .. أو من حملوا جوازات باكستانية وبنجلاديشية .. حينما لجئوا مؤقتا إلى تلك البلدان .. قبل المغادرة إلى مكة تاليا .. فكانت ثغرة سببت إدعاء عمال من باكستان وبنجلاديش _ يعملون في البلاد _ أنهم بورميين حتى يستفيدوا من منحة اللجوء البرماوية التي منحتها لهم بلادنا .. فتفاقم الوضع في تكدسهم .. وبسبب توقف باكستان وبنجلاديش عن تجديد جوازات البورميين لم يعد يستطيع بعضهم من التعليم بسبب الهويات المنتهية .. فظهرت مشكلة الجهل وتبعها الفقر وقلة الموارد وضعف مهنية أفرادهم أدى إلى تكون بقعة منغلقة .. غير متعلمة وفقيرة .. وبدل أن يستفيد المستثمر وأصحاب المصانع بل ويعينون البلاد على تخطي مشكلة كهذه من وجود طبقة عمال ولاءها للدولة ولاتعرف بأجيالها الثلاث بلادا غير هذه الأرض.. أُهملت بتعدادها الذي بلغ ٥٠٠ ألف نسمة .. تدريب هذه الجالية وإحلالها كيد عاملة أجدى من الاستقدام فمدخولها لن يرحل عن البلاد وقد نصل إلى حل قضية تشغل منطقة مكة المكرمة منذ وقت .. وقد كانت هناك أخبارا عن مشروع لتحسين أوضاعهم من قبل أمانة مكة المكرمة .. ولعله يرى النور قريبا .
وكما انتهت الرواية بوفاة الأب و بقاء الابن الطفل.. الذي يعكس البراءة والفطرة السليمة والذي استطاع خلاف والده إنشاء ثقته بالأخر _ و الذي تكفل بحمايته على طول الطريق بالمعاونة والإنسانية _ أرجو أن نصل نحن أيضا _أمام هكذا قضية _ إلى تقييم إنساننا وضمائرنا لأنها السبيل الأسلم الذي يؤهلنا لتشارك الطريق دون خسائر إنسانية مع الآخرين .
أماني الغانمي
مقالات سابقة للكاتب