” أرأيت.. للكلمة سُلطة ؟ ” عبارة قالها كاهن لـ (جابرييل جارسيا ماركيز) وكان حينها ابن الثانية عشر حينما أوشك درّاج أن يصطدم به فصرخ الكاهن بـ ( احذر ) فسقط الدرّاج …وتبدو هذه العبارة أكثر تضخما في عالمنا اليوم عالم الكلمة التي يمكنها أن تصل إلى أي بيت في أي لحظة وقبل أن يرتد إليك بصرك .
في عالم ( وسائل التواصل الاجتماعي ) .. تشبه الكلمات المغلفة بالآراء الجاهزة ؛ كرة القدم فهناك من يقذف بها وهناك من يتلقفها بسرعة .. وكُلفة هذه العملية شائكة .. ومن جهة أخرى يصعب الحكم عليها بالسرعة ذاتها… فـ
أصبح الشق أكبر من الرقعة.. فمآل هذه الآلية لا محالة إلى تكديسٍ معلوماتي بلا وثوقية .. لذا يظهر الغمط وسوء الفهم ..ثم تصبح _فيما بعد _ للعقل معيارا للحكم ..
فمشهد صادم لراشد الشمراني (جبر) في (مخرج٧ ) قد أحدث ما أحدث من زوبعة .. فقد زعم فيه كراهية الفلسطيني للسعودي _ دون تبعيض _ وأن القضية الفلسطينية تخص الفلسطيني وحده وهو من باع أرضه… وقد تبنّى هذا الرأي الشاذ بعض رواد ( تويتر )…. فيقول أحدهم: ( أول شجاع سعودي يقول ما في نفسي) وأخر يقول :( أتبنّى رأي راشد ) .. وقد لا يهم راشد الشمراني سوى عدّاد المشاهدات والحديث عن مسلسله .. ولكن ماذا عن بيع الفلسطيني لأرضه هل يمكن أن يفعل ذلك ؟! وكيف تُستقطب معلومة دون التحقق من طبيعتها التاريخية داخل هذه العقول .. أم أن ثمة بروباغندا تُنشر ( في الشبكة العنكبوتية ) لمصلحة ما؟!
بالرجوع إلى واقع الحدث نجد أن الحكم عليه واستخلاص رأي يحتاج إلى مراجعة مباحث وإحصاءات ووضع الحادثة في إطارها التاريخي… فقد بدأت الأزمة بسبب عدة محاور أولها صدور (فرمان) من الباب العالي عام 1849م بعد أن قصده أحد أثرياء بريطانيا اليهود ( موسى مونتيفيوري )
و تضمّن الفرمان الصادر قانونا جديدا يسمح لليهود الذين يعيشون في فلسطين بتملّك الأرض فيها والذين كان تعدادهم حينها 500 يهودي فقط .. فكانت نواة الحي اليهودي نتيجة ماثلة لهذه الزيارة … وفي عام 1882 م تضاعفت أعداد اليهود المهاجرين ومعظمهم من روسيا مستغلين ضعف الدولة العثمانية .. ولمّا انهارت الدولة بات الانتداب البريطاني مسيطرا على القدس عام 1917 م وتحت ستار هؤلاء اليهود النواة تمكن أثرياء أوروبيون من شراء الأراضي كـ (والتر دي روتشيلد) ..
وأيضا كانت أنظمة تملّك أراضي المشاع ـ التي تملكها الدولة العثمانية و تبلغ 70% من مساحة فلسطين ـ لاتُمكّن الفلاح الفلسطيني من تملّكها إلا بشرط زراعتها ودفع ضريبتها .. مما أدى تاليا إلى إحالتها عند العجز عن الدفع لإقطاعيين من لبنان وسوريا ومصر .. وقد تسبب تقسيم الدول العربية بعد ( سايكس ـ بيكو) من منع هؤلاء المُلاك من أراضيهم في فلسطين .. فكانت سببا لبيعها لسماسرة نزلوا بكل ثقلهم إلى الأراضي الفلسطينية بعد إنشاء صناديق (متعددة) يهودية تُجبى لها تبرعات سخية من أنحاء المعمورة ..ولم يدخر حينها الانتداب البريطاني أي حيلة لأجل الحصول على كل قطعة أرض .. بالتهديد ونزع الملكيات كـ ( قانون نفعية العامة ) وقوانين وتسهيلات أخرى قاموا بها لصالح اليهود الصهاينة .. والآن تخيّل كم هي الأراضي التي تم بيعها تحت وطئة هذه الظروف 1% من الفلسطينيين و7% من العرب ..أي أن مجمل ما تم بيعه تحت هذه الظروف والتعسفات بل والخداع كان 8% من كامل الأرض الفلسطينية ..
يقول أحد سماسرة شراء الأراضي الصهاينة ( يوسيف نحماني ) الذي كتب مذكراته وأصدرت كتابا ترجم إلى العربية بـ ( مذكرات سمسار صهيوني ) ” كان دافيد بن غوريون غير متحمس لعمليات شراء الأراضي.. والجـواب بسيط جداً فبن غوريون بدأ يخـطط لاحتلال الأرض بالقوة العسكرية بعد تقرير لجنة بيل في سنة 1937 م الذي أوصى بتقسيم فلـسطين، ولم يكن يرغب في تبذير الأموال على عمليات استملاك متعبة ومحدودة ” .
وقامت عصابات الهاقاناه وشتيرن والأرجون و التي كونت فيما بعد جيش الدفاع الإسرائيلي بعد قيام دولتهم بأبشع المذابح ضد الفلسطينيين .. على مرور تاريخ هذه الدولة المغتصبة .
وبحجم قسوة الإستيطان و ما رافقه من تهجير ومذابح وحرمان وفقر وسلب .. يجب أن نفكر في كل كلمة تعبر هذا العالم المجنح بالأكاذيب وإلا سنبدو حمقى إن لم نواكبه بعقول قادرة على الفلترة والنقد والبحث..وحتى لا نكون أحمق من هبنقة في تصدير الأحكام وكيل التهم للآخرين دون سبب واضح أو نصبح دمى ـ دون أن ندري ـ بأيد خفية!.
أماني الغانمي
مقالات سابقة للكاتب