أعجبني عنوان هذه الزاوية (يوميات متقاعد) ورحت أتصفح ما كتبه المتقاعدون ابتداءً من اللواء صادق الشيخ… ومروراً بـ الأساتذة أحمد مهنا الصحفي، وعبدالرحيم المغربي… وانتهاءً بـ مائدة العباسي وحنان المغربي وعبدالرحمن المزروعي فوجدت أن طروحاتهم كلها ذكريات وخبرات وتجارب ودروس مما قاموا به قبل الدخول إلى عالم (التقاعد) والخروج من عالم (الوظيفة)، وفي كل ذلك من الفوائد والحِكَم والتجارب ما تجعل القراء أمام قامات وظيفية قدَّمت وعانَت وحصدت فلهم كل الشكر والتقدير والاعتزاز بما قدموه وبذلوه!! وهنا تذكرت كتاب (الهجاء) للصف الأول الابتدائي زمن الطيبين، والدرس الجميل: زرع – حصد!!
ولما قررت الكتابة لهذه الزاوية جعلت هدفي مركزاً على عالم (التقاعد) عالم ( مابعد الوظيفة ) ومركزاً على الإجابة على السؤال المركزي وماذا بعد (1/7) ؟.
لعلنا نعرف أن 1/7 هو تاريخ ميلاد المتقاعد النظامي/ الرسمي منه تبدأ دورة حياته الجديدة فكيف يقضيها.. يخطط لها.. يستقبلها بروح جديدة قوامها التفاؤل والعزيمة والطموح والتطوع [ زرع –حصد ]، من نوع جديد فيه الذاتية والإيجابية والمستقبلية.
من اليوم الأول – عندما سلموني ورقة…. ، قررت أن أزيل من قاموسي كلمة (كنت) الدالة على الماضي، والأمس واستبدلتها بـ (سأكون) الدالة على الغد والمستقبل.
والـ (كنتية) خطاب نقد/ أدبي يتعلق بالسيرة الذاتية – غالباً – ويقوم الخطاب الكنتي باستعادة ماضوية للذات من خلال سياقات (الأنا) الفاعلة/ المنتجة التي تشكل سلطة معرفية واجتماعية صالحة للقدوة والنمذجة (انظر د. أحمد آل مريع: الكنتية في الممارسة الشفهية لخطاب السيرة الذاتية… محاضرة في نادي جدة الأدبي، شعبان 1438هـ).
ولما تشبعت بهذه الفكرة وآمنت بها حاولت أن أتناسى ذلك التاريخ/ الماضي إلا من استدراج خبرة أو استذكار تجربة أو التباهي بمنجز، ولكني بدأت الاستعداد الحقيقي لمرحلة التقاعد التي لا أدري إلام تمتد من الشهور والأعوام و… و…!! وها نحن أمام ست سنوات تقاعدية ما بين العامين 1435هـ و1441هـ أسأل الله المزيد من العمر التقاعدي في صحة وعافية وإنجازات مجتمعية ووطنية وشخصية عائلية وفردية.
ولهذا كان أمامي أولاً زيارة فرع المؤسسة العامة للتقاعد بجدة التي لا أعرفها طوال 38 عاماً وظيفياً، إلا ثقافة ومعلومات عامة لأتعرف أكثر على هذا العالم الجديد الذي سأنتمي إليه.. وما إن وصلته، ألفيته مكتباً متواضعاً في شارع فلسطين بجدة، لكني وجدت إدارة وموظفين عليهم سيماء الشباب والنبل والاحترام لزبائنهم كبار السن وقد لفت نظري أول ما دخلت تلك البترينة التي تحمل النشرات التقاعدية، ومجلة التقاعد، والأدلة التعريفية فاقتنيت منها ما أقضي به وقتاً ممتعاً حتى أحصل على الخدمة التي أريد. وهنا خطر في بالي هذا التساؤل لماذا لا يحل المتقاعدون هنا محل هؤلاء الموظفين فإدارة المتقاعد من متقاعد مثله هي أجدر وأولى ؟!
وما هي إلا لحظات حتى جاء دوري وحصلت على ما أريد: بطاقة انتماء لهذا العالم الجديد عالم المتقاعدين، شعرت حينها بأن جداراً زجاجياً ضرب بيني في عالم التقاعد، وبيني في عالم الماضي والانتماء التربوي والتعليمي فتساءلت هل هذه قطيعة ضرورية وحتمية أم هي فقط قطيعة وهمية لا يجب أن تكون أكثر من ذلك!!
تذكرت أحد الجيران الأصدقاء من موظفي الشرطة والحقوق المدنية الذي قال لي في آخر يوم وظيفي دع زملاءه العسكريين والمدنيين وألقى عليهم النظرة الأخيرة وقال لهم هذه بداية القطيعة وألغى كل وسيلة للتواصل!! شيء عجيب!!
أما أنا فاخترت الانتماء للعالمين، وأكدت حسن علاقتي بالانتماء التعليمي/ الوظيفي، وزملاء المرحلة وقلت لهم في حفل التقاعد “إنني ابن التعليم وأحب التعليم ولن أنس التعليم، وسأتطوع يومين أو ثلاثة في الأسبوع وسأقدم برامج تدريبية مجانية لمن يرغب، وسأنجز كتاباً عن تاريخ التعليم في جدة…” (انظر كتابنا باقات ورد إلى التعليم في جدة ص 322).
وما إن دخلت رسمياً في عالم التقاعد بحصولي على البطاقة التقاعدية حتى تناهى إلى خاطري وخططي المجال التطوعي، فكان مجلس حي النعيم أول محطاتي التطوعية فأسهمت في دورتين أو ثلاثة مستشاراً، ومقدم برامج تدريبية، ومشاركاً نشطاً في كل فعالياته وخاصة الموجهة للشباب، أو إصلاح ذات البين.
ولما سمعت عن الجمعية الوطنية للمتقاعدين بجدة NRA حتى انخرطت في فعالياتها، وانضممت إلى طاقمها مستشاراً ثقافياً متطوعاً، فأعددت لهم الخطة الإستراتيجية والفعاليات الثقافية، وشاركت في البرامج المناسباتية/ الاحتفاء بالعيد، واليوم الوطني، وغيرها. وقدمت برامج تدريبية: متعة التقاعد، الهندسة الموقفية، رؤية عن الرؤية، وغيرها.
وعبر السنين الثلاثة 36/37، 37/38، 38/39 كانت الجمعية الوطنية للمتقاعدين في جدة شعلة من النشاط الثقافي، والاجتماعات التخطيطية بقيادة رئيس الجمعية عبدالإله الجبالي. ومن ثم بدأ صوت الجمعية يختفي، ونشاطها الثقافي يقل ويتضاءل إلا من فعاليات نسوية متقطعة، وذلك بعد دخولها في مرحلة الصراعات الداخلية والتطويرات الهيكليةـ والانضمام إلى الجمعية الأم في مكة المكرمة وما تخللها من انتخابات شكلية غير الصورة المضيئة التي كنت أحملها لهذا الكائن الجديد!!
وفي خضم هذا التفاعل التطوعي مع جمعية المتقاعدين جاءني اتصال رسمي من المحكمة العامة بجدة فقد رشحت لهم من قبل مدير جمعية مراكز الأحياء -آنذاك- المهندس حسن الزهراني للعمل في لجان إصلاح ذات البين في المحكمة. وفعلاً قابلت رئيس المحكمة وعرَّفني على اللجنة والقائمين عليها.. وبدأنا مسيرة التخطيط والتعرف على القضايا التي تدخل في نطاقها، وشيئاً فشيئاً قل الحماس لهذه التجربة التطوعية حتى اختفت تماماً.
كل هذه التجارب التطوعية كانت برفقة أحد الجيران المتقاعدين من قطاع الخطوط السعودية/ صدقة نجار، نِعم الصديق الصدوق. المتطلع إلى إضافات إيجابية في مسيرته الحياتية بعد أن غادر العمل الوظيفي الرسمي، فله كل الشكر والتقدير.
لكن الفضاء التطوعي الذي استمر معي وحتى اليوم هو المجال الأدبي والثقافي من خلال العضوية في نادي جدة الأدبي الثقافي ولجانه الثقافية في المحافظات المجاورة (خليص – الليث – القنفذة – العرضيات) والذي سجلت فيه الكثير من المبادرات والمشاركات الثقافية والأدبية ولا أزال متوثباً لعمل المزيد طالما في النفس طاقة، وفي الروح إقبال.
وفي هذا السياق تجيء المشاركات الفكرية الثقافية عبر الصالونات الثقافية في جدة وأبرزها صالون الأسبوعية لصاحبه الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني، وكذلك في الفعاليات التي تقدمها جمعية الثقافة والفنون بجدة، والمناشط الأدبية التي تقيمها نوادي الأدب في مكة المكرمة والطائف، ومثيلاتها في مناطق ومحافظات المملكة.
ولعل أهم المناشط الإيمانية التي ولدت مع المرحلة التقاعدية هو ذلك المنشط المكي!! حيث اجتمعنا وأتلفنا مع ثلة من جيران مسجد النقاء بحي النعيم حيث أسكن وأقيم وتكاتفنا على أن نصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع والأيام البيض من كل شهر، ثم ننطلق إلى الحرم المكي بعد صلاة الظهر لنصلي في الحرم الشريف صلاة العصر والمغرب والعشاء، ونتناول طعام الإفطار مع ثلة مباركة تعرفنا عليهم من أصحاب السُّفَر الإفطارية للزوار والمعتمرين بقيادة الأخ العزيز سرور العتيبي (أبوخالد) ورفقته المباركة المذكورة بالخير والاحترام وحصلت بيننا صداقة وأخوة حميمية طوال سنوات ثلاث أو أربع ولا زالت قائمة حتى اليوم رغم تفرقنا بحظر (كورونا) والتباعد الاجتماعي.
إن هذا المنشط الإيماني المكي هو زبدة وخلاصة الفعل التقاعدي؛ لارتباطه الروحي والنفسي بالمشاعر الدينية المتأصلة والتقوِّي على فعل الطاعات مع رفقة صالحة تدل على الخير وتعين عليه!!
ولعلنا – في الختام – نشير إلى أبرز الدروس والتجارب العملية في المسيرة التقاعدية منذ العام 1435هـ وحتى العام 1441هـ وهي كالتالي:
(1) التقاعد مرحلة جديدة في حياة الإنسان يبدأ منها… وليس مرحلة أخيرة يقف عندها.
(2) التقاعد متعة ويجب أن ينظر إليه كذلك، حتى يستطيع الإنسان التكيف والاندماج والعيش مع هذه المتعة التي يصنعها المتقاعد نفسه.
(3) التقاعد سياق زمني متجدد، وحرية منتظرة، وفضاء ممتد نحو العطاء المستمر بلا قيود ولا حدود.
(4) التقاعد أن تعمل ما تريد، في الوقت الذي تريد.. وبالكيفية التي تريدها أنت أيها المتقاعد.
(5) التقاعد انتقال من العمل الحكومي إلى العمل التطوعي/ النوعي وفي المجال الذي تطيقه وتستطيعه.
وهنا لا بد من كلمة عن التطوع والمتطوعين وهي خلاصة ما مررت به من خبرة في التجربة التطوعية، فبلادنا ومجتمعنا ومواطنونا فيهم هذه النزعة الإيجابية ويقدمون عليها برغبة ومصداقية طمعاً في الثواب والأجر الأخروي. ولذلك نجد المسارات التطوعية في زيادة واضطراد.. وأمام هذا الجهد نحتاج إلى تأطير وتنظيم هذا المجال والاستفادة من قدرات المتقاعدين كلٌّ في تخصصه، والراغبين من القائمين على العمل الحكومي قبل التقاعد وذلك ضمن عمل مؤسسي/ هيئة وطنية للتطوع مثلاً ترتبط بوزارة الموارد البشرية أو المؤسسة العامة للتقاعد.
وقبل أن أضع القلم التقاعدي أهمس في أذن القائمين على هذه اليوميات التقاعدية في صحيفة غراس الإلكترونية الحبيبة أن يتبنوا إقامة ندوة حوارية أسبوعية أو شهرية حول هذه المفاهيم التقاعدية التي وردت في هذا المقال أولاً ليسعد المتقاعدون بوجودهم المجتمعي، وحقوقهم الإنسانية، ووقفات الإعلام المقروءة معهم، وثانياً لإثراء هذه الصحيفة بندوات وطروحات تقاعدية فيها الفائدة والإيجابية للجيل القادم المنتظر من المتقاعدين..
والحمد لله رب العالمين.
د. يوسف حسن العارف