عندما كنت أخطو أولى خطواتي في خدمة التعليم و أهله هيأ الله لي رجلا صادفته في الإدارة العامة للتعليم بجدة عندما كنت أرغب في استلام خطاب توجيهي لمدرستي التي منها بدأت قصتي ..
و حينها دار حوار بيني و بين رئيس قسم اللغة العربية آنذاك الأستاذ حسين فلاتة -رحمه الله- .. كان هناك رجلٌ يناظرني بتمعن ويستمع لحديثي بتركيز .. عندها قال بصوتٍ مرتفع .. هذا المعلم الذي أريد التفتُ إليه و قلتُ له بصوتٍ هادئ مسموع هل أنت من سيقرر أين أذهب ؟ قال بصوت يملؤه الثقة.. لا .. ولكني لن أفرط فيك و أريدك ضمن فريق العمل معي!!
أجبته بأنني أرحب باختيارك و ثقتك بي ولكن من أنت ؟ و أين مدرستك ؟ فأجابني مبتسماً وقال مدرستي تقع شمال البرزة و همٌ بعدها مغادرا !!!!!
وقال لرئيس قسم اللغة العربية أعطوه خطابه لثانوية الشهداء و أنا أنتظره هناك …. ثم غادر
حينها مُلئت حيرة و قلقا وسألت من حولي من هذا ؟ و كيف يقرر توجيهي ؟
هناك وقف رجل ذو لحية خفيفة عرفني بنفسه قائلا أنا صالح الحارثي رئيس قسم المكتبات .. قالها و هو يتبسم أنت معلم محظوظ أن اختارك هذا القائد ضمن فريق عمله فهناك مدرسةٌ ثانوية نموذجية هي ثانوية الشهداء تقع بجوار سوق الخيمة …. وليست شمال البرزة كما سمعت و إنما كان الرجل يمازحك..
قلت له لم أعرفه من هو ؟
قال: هذا نويجي بن سليمان الشيخ من أفضل القادة بتعليم جدة
أخذت خطابي و عدت لمنزلي و الحيرة تتملكني
وفي اليوم الثاني ذهبت للمدرسة دخلتها متلفتا !!
أبهرتني تلك البيئة الجاذبة و المبنى الحكومي الجميل و الذي لَبْس حلة قشيبة من التنظيم والهدوء
و في دورها الثاني شاهدت ذاك القائد فصعدت إليه و استقبلني مبتسماً و قال : “أهلا بالشاب القائد”
و سألني كيف رأيت المدرسة ؟
أجبته قائلا ( ليالي العيد تبان من عصاريها ) قال أعدها فأعدتها و تبسم ضاحكا
فأمسك بيدي و أخذني بجولة على مرافق المدرسة و همس بأذني قائلا : “هنا سترافق فريق عمل متمرس و من خلاله ستصقل شخصيتك” و أكمل قوله .. “جرب العمل معنا و إذا ما ارتحت أتكفل لك بالنقل للمدرسة التي ترغب” ….
اخترت مدرسته وشخصيته قبل مبنى مدرسته
واستعديت للعمل بكل دافعية و شجاعة متسلحا بكلمات ذاك القائد
على الرغم من كون المدرسة بها ٢١ فصلا تقريبا و عدد طلابها يقارب ٩٠٠ طالب تقريبا
وهنا قد انطلق العام الدراسي ….
و أنا أخطو بثبات و دعم من نويجي القائد الذي
تعلمت من شخصيته الكثير ، كنت أراه القائد و الأب و الصديق و الأخ .. ممتزجة هي شخصيته
هناك بدأت أتعلم منه معنى القائد الرجل ، تعلمت الوفاء بصفته و شخصه
رافقته بالمدرسة حتى انتقل محاضرا بكلية المعلمين ..
استكملت مسيرتي معه كصديق ونهلت من معينه ولازلت كذلك حتى قبيل وفاته -رحمه الله-
لم أفارق تلك الشخصية المتوافقة ، تعلمت منه العطاء تعلمت منه القيادة ، تعلمت معه معنى الصبر والإنسانية بكل معانيها
هنا أصف رحلتي معه ولا أُتم وصفه …
رحم الله أبا محمد فقد كان مدرسة شامخة تتعلم منه الأجيال المتلاحقة حيا وميتا
وإننا إذ نعزي أولاده و أهله نعزي أنفسنا و جميع المتعلمين الذين عرفوه و لا نقول إلا كما أمرنا ربنا في قوله تعالى :
{ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
توفيق حميد الشابحي
مدير مكتب التعليم بمحافظة خليص
مقالات سابقة للكاتب