رسائل مبتعث – ٢٠

الرسالة العشرون

في الرسالة السابقة تكلمت معك عن برنامج الإبتعاث الخارجي وما له من حسنات كثيرة على الرغم من أن البعض يرون فيه بعض المساويء … بالطبع ليس هناك شيء في الحياة لا يوجد فيه مساويء الا التمسك بالدين الإسلامي الصحيح بوسطية وتعقل ، وما عدا ذلك فكل شيء فيه ما فيه من الإيجابي والسلبي ، وإنما الذي يزيل السلبيات إلى حد ما هو الطريقة التي يتم بها التعاطي مع أي شيء … ولا أعتقد بأنني في حاجة لأن أشرح لك أكثر من ذلك في هذا الشأن ، فيوجد لدينا العديد من الصور في بلادنا التي تم التعاطي معها بطريقة خاطئة وأدت إلى نتائج سلبية مع العلم أنها في أساسها أشياء حسنة … دعك من ذلك ولنعد إلى برنامج الإبتعاث والذي في أساسه مشروع علمي تطويري يهتم بتطوير أفراد المجتمع على إختلاف مستوياتهم العلمية والإجتماعية ، فإن البرنامج لم يفرق بين غني أو فقير ، ولم يفرق بين مناطق المملكة إطلاقاً فلقد قابلت في الإبتعاث من جميع المستويات ومن جميع المناطق وأحمد الله سبحانه وتعالى أن جعلني من ضمن المجموعة التي حظيت بفرصة الإبتعاث … فلقد تعلمت دروساً كثيرة ، وأطلعت على تنوع العقليات الموجودة لدينا فمنهم من هم على قمة في التفكير الإيجابي ونقل الصورة الحسنة لمجتمعنا ، ومنهم من هم في حاجة إلى الكثير من المعرفة للوصول إلى ما يعكس واقعنا العلمي والإجتماعي ، وكذلك عرفت كيف يكون الإقتصاد في كل شيء بدأً من الملبس إلى المأكل والمشرب إلى التعاطي مع مغريات الحياة ، فلقد رأيت شتى أنواع الصور الإجتماعية هنا ، من طلاب سعوديين وغيرهم ، لقد رأيت من السعوديين طلاباً يكتفون بأدنى حد من المصروفات ليوفرون من المكافأة ما يرسلونه شهرياً لأبائهم … وفي المقابل رأيت طلاباً لا يفترون يطلبون من أهلهم شهرياً مبالغ توازي المكافأة وأحياناً ضعفها تعللاً بأن المصروفات كثيرة والبلد غالية … لقد تعلمت بأن هناك عدة سبل للعيش في أي بلد بما يكفي الحاجة وتحقيق الهدف بنجاح … إن السر هو في قوة التركيز … فقوة التركيز على الهدف تجعل كل ما سواه شيئاً هامشياً لا معنى له … ولهذا سوف أستدل لك بمثال من الواقع الذي رأيته أمامي … فلقد قابلت في أحد الأسواق المركزية أحد العاملين الذي يُعبئون المشتروات في الأكياس للزبائن بعد المحاسب … إذ عرض عليّ توصيل الأغراض إلى السيارة فقبلت على سبيل التجربة فقط لأنه مكتوب على أقمصتهم (الرجاء عدم إعطاء إكرامية) ، وعند الوصول إلى السيارة عرضت عليه مبلغ بسيط فرفض وبشدة مؤشراً على ما كُتب على قميصه ، فدار بيننا حوار بسيط فقال لي بأنه يدرس في الجامعة التي أدرس بها أنا اللغة وهو في مرحلة الماجستير وقد أتي من بلد قريب من أمريكا ويعمل هنا حوالي 12 ساعة أسبوعياً لتفي ببعض مصروفاته الشخصية حيث أنه قدم على حساب والديه وتحصل على دعم بسيط من الجامعة … ويتقاضى مقابل عمله حوالي 11 دولار للساعة أي يحصل أسبوعياً على 132 دولار … ولهذا قررت بإذن الله أن أقدم على أي عمل داخل الجامعة حسب ما يسمح لي به النظام وذلك بمجرد الإلتحاق بالجامعة ليس من أجل المال فقط وإنما من أجل كسب الخبرة وتحسين لغتي الإنجليزية إن شاء الله … فهذا هو من وجهة نظري الخاصة معنى الجد في طلب العلم وتحقيق أهداف الإبتعاث حتى على المستوى الفردي …وبالمناسبة سمعت قبل أيام حديثاً تلفزيونياً للرئيس الإمريكي باراك أوباما أمام طلاب مدرسة ثانوية في حفل أثناء إلتحاق إبنته بالفصل الدراسي الأول في المرحلة الثانوية ، حيث قال “إن الدراسة ليست فيها تطوير للفرد فقط ، وإنما هي تطوير وبناء أمة بأكملها” ، أنظر إلى البلد الذي نحن قدمنا إليه بحثاً عن العلم … لا زال أيضاً يبحث عن التطوير وبناء الأمة ، فما بالك بنا نحن وما زال أمامنا الطريق طويل … كأفراد يجب أن ننظر إلى العلم بأنه تطوير لأنفسنا أولاً ، ثم علينا أن ننظر إليه كواجب ديني إنساني ووطني نخدم فيه أنفسنا في المقام الأول وديننا وأمتنا في المقام الأكبر والأشمل … إسمح لي إذ أنني أسهبت كثيراً في هذا الجانب وإنما رأيت من واجبي أن أنقل لك كل شيء أراه وأتعلمه بكل أمانة وإخلاص … ، لقد نسيت أن أحدثك عن أول شهر رمضان قضيته بعيداً عن أهلي ، لهذا دعني أرجع بك قليلاً إلى الوراء … فلقد مر عليّ شهر رمضان كما لم يمر عليّ من قبل إذ تعودت عند أهلي أن أنام من بعد صلاة الفجر إلى الظهر ثم أقضي بقية يومي بين قراءة ما تيسر من القرآن الكريم وقضاء بعض متطلبات البيت وأحياناً فقط الجلوس في البيت بدون أي عمل يُذكر سوى زياراتي المتكررة إلى المطبخ مستطلعاً من والدتي عن نوع الفطور … أما هنا عندما فقد قدم علينا رمضان ولم يكن هناك إجازة فالدراسة مستمرة كما هي وعلى نفس المنوال لا فرق أبداً… وإنما قبل رمضان بأيام أتفقنا كأفراد سكن واحد (عزبة) أن نتقاسم المهام فيما بيننا من جديد ، فأخذت على عاتقي متابعة اليوتيوب والإنستقرام لتعلم طريقة إعداد بعض الوجبات الرمضانية وأقصد بالأخص السمبوسك والشوربة والحلى … فكنت في كل ليلة أشاهد مقطع أو مقطعين وأبدأ في التطبيق … وبالطبع زملائي جزاهم الله خيراً …لم يقصروا معي أبداً ، فمرة تهزيء قاسي ، ومرة بأدب ، ومرة تطيير جبهة ، ونادراً مدح … ومع كل هذا كنت أواصل طريقي في الطبخ لهم ، وهم مُجبرون على الأكل ليس لحسن الطبخ وإنما لأن ليس لديهم خياراً آخر أفضل .. منصور تعهد بغسيل المواعين وإعداد السفرة ولمها بعد الأكل … أما عصام فتعهد بتأمين المشتروات ومساعدتي في إختيار الوجبات من اليوتيوب والإنستقرام … هنا أستفدنا من التقنية الحديثة بطريقة إيجابية وأيضاً دعونا لكل من أنزلت مقاطع فيديوا جادة لتعليم الطبخ عن طريق تلك الوسائل فجزاهن الله عنا خيراً كثيرا فقد علمننا من غير أن يشعرن بذلك … في رمضان لم يتغير شيء كثير في برنامجنا الدراسي إذ أن وقت المعهد كما هو ، إنما قللنا من الذهاب إلى المكتبة وعوضناه بقراءة ما تيسر من القرآن بعد المعهد ، والسهر ليلاً في البيت للمذاكرة وقليل من التسلية ، وكنا في كل ليلة بعد أداء صلاة العشاء والتراويح في المسجد الصغير القريب من سكننا ، نقضي دقائق قليلة أمام باب المسجد نتحدث مع بعض الطلبة ثم ينصرف كلٌ إلى شؤونه … لقد أجبرنا أنفسنا على التأقلم مع الوضع الجديد علينا جميعنا وبحمد الله أننا تجاوزناه ومضى رمضان ونسأل الله القبول … في أول أيام العيد أدينا صلاة العيد في نفس المسجد مضافاً إليه مواقف السيارات التابعة للمسجد ، ثم في اليوم الثاني أقام نادي الطلاب السعوديين في الجامعة بناء على إعلان مسبق حفلاً مبسطاً إبتهاجاً بالعيد كان في داخل أحد صالات الجامعة تبادلنا فيه التهاني بالعيد ولبس بعضنا الثياب فرحين بزينا الوطني … وتخلل اللقاء بعض الكلمات الترحيبية من رئيس النادي وأحد الطلبة القدامى .. وكذلك ألعاب ترويحية للأطفال ومسابقات ثقافية للكبار وتناولنا طعام العشاء ثم قام مجموعة من الطلبة تطوعاً بتنظيف الصالة وترتيب الكراسي والطاولات وبهذا أنتهى العيد بالنسبة لنا … سأكتفي بهذا القدر وإلى اللقاء في رسالة لاحقة إن شاء الله ، والسلام عليكم ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *