بين عام حل وآخر إرتحل …

وهكذا تتصرم الأيام وتطوى صفحات السنين سنة بعد أخرى في خطوات متلاحقة سريعة نحو الدار الآخرة ، قال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون )

رحل عامٌ بكل ما فيه من أفراح وأتراح وآلام وآمال ، وليس ثمة شيء من كل ذلك إلّا وهو مخطوطٌ في اللوح المحفوظ كتبه العزيز العليم العظيم الحليم ، لنزداد يقينًا أنَّ كل ما وقع فيه من أحداث جسام لم يحصل إلا بإرادة الله الرحيم الذي هو أرحم بعباده المؤمنين من الأم بولدها ، والذي لا يقدّر سبحانه للمؤمنين إلا الخير وإن بدا في ظاهره خلاف ذلك ، كيف لا وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير ، إنْ أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن).

إنقضى عام دَهَمت المسلمين فيه خطوبٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ زادت من جراحهم وآلامهم ، فهذه بلاد الرافدين تئنُّ من إستئصال أهل السنة فيها ، وتلك بلاد الشام تعاني من ويلات الباطنيين بإسناد صارخ ومفضوح ظهر على السطح مؤخرًا من الروس المجرمين ، وأما بلاد الإيمان والحكمة فقد عاثت فيها يد الحوثيين وأعوانهم فسادًا، وأحدثت فيها خرابًا ودمارًا ، ومن وراء كل أولئك في كل تلك البلدان يد إيران التي تواطأت معها قوى الغرب الصليبي لضرب أهل السنة في المنطقة كلها.

وأما الصهاينة فلم يغيبوا عن المشهد ، واستماتوا في إنتهاك حرمة المسجد الأقصى مرة بعد أخرى كما لم يفعلوا من قبل ، وقاموا بحرق جزء منه ، وأما داعش وما أدراك ما داعش فأمرها كثير الغموض وبلغت خطورتها المدى ، ولا تكاد بلد من بلاد المسلمين إلا وقد أصابها من أذى داعش الكبير ما أصابها.

وبعد هذا الإستعراض السريع للمشهد في ديار الإسلام تلك نتوقف لنطرح السؤال: أليس أولئك القومُ ظلمةً مجرمين يبغضهم الله ويمقتهم ، وأهلنا في تلك البلاد مسلمون مؤمنون يحبهم الله ؟

ويأتي الجواب واضحًا جليًا : بلى ….. ولكن ! 

هل تأملنا جميعا -نحن وهم- قول الله تعالى : ((وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير))، وقوله : ((إن الله لا يظلم الناس شيئا ولٰكن الناس أنفسهم يظلمون)) ، وقوله : ((أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها * ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم)) .

وإذا كنا قد فعلنا ذلك فهل قادنا هذا التأمل إلى الإيمان بأن ما يحصل للمسلمين إنما هو لتنقيتهم من الشوائب ، وليقوى عودهم ، ولتسمو أرواحهم وتقوى عزائمهم؟ ، فيستحقوا بعد ذلك نصر الله وتأييده فيتحقق وعد الله : ((يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)).

كما أنَّ ما يلقون من أذى وعنت ومشقة لا يساوى شيئا مما أعده الله للكافرين من عذاب في الآخرة إن لم يكن في الدنيا قبل ذلك.

ومن مقتضيات هذا التأمُّلِ سؤالٌ ملحٌّ: هل تمثلنا نحن الذين أنجانا الله من تلك المصائب مَثَلَ الجسد الواحد(بالقدر الكافي) الذي وصفه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله : ((إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ؟ ، هل إستحضرنا واقعاً قولَه صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون يسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم))؟ ، هل يا ترى فكرنا فيما ينجينا مما أصابهم وعملنا به من إحسان الصلة بالله وإتقان السير على هدى مصطفاه صلى الله عليه وسلم؟ 

إن العاقل يجعل من مراحل العمر محطات للوقوف والتأمل ، فإذا كان ممن تساوى يوماه فهو من المغبين ،  فماذا عسانا أن نقول عمن تساوى أسبوعاه ، وشهراه؟ ، ويا ترى كيف سنصف الطامة الكبرى عندما نتحدث عمن تساوى عاماه؟!.

لقد كان السلف يجرون حسابا يوميا لأعمالهم قبل نومهم كل ليلة لاستدراك النقص وتحسين الحسن والسعي إلى الكمال فأين نحن يا ترى من ذلك ؟!
 
كفانا تذرّعًا بأن الزمان تغير والظروف إختلفت لنبرر لأنفسنا ما نحن فيه من قصور ، فكلنا يؤمن بقول الله تعالى : ((وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)) ، وقوله تعالى : ((وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)).

ما مضى من الزمن لن يعود والحكمة تقتضي أن نستفيد من قادم الأيام والفرصة كبيرة ومتاحة ، ولعل من أهم الأمور أن يضع كل منا لنفسه خطةً يسير عليها في عامه الجديد حتى يحقق أفضل النتائج في كل مايعمل إن كان من أمور الدنيا أو الآخرة.

وهنا لفتةٌ تغيب عن كثير من الناس وهي: أن من فضل الله علينا أن إختتم العام بشهر حرام فيه عبادة عظمى ألا وهي الحج ، وافتتح العام بشهر حرام فيه حث كبير على سنة عظيمة ألا وهي الصيام ، قال صلى الله و و عليه وسلم: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم))

فها أنتَ تختتمُ عامك بطاعةٍ ، وتستفتحه بطاعةٍ ، فاجعل ما بينهما طاعةً ، ليزكوَ عمرك ، وتتبارك أيامك، وتكون إضافةً إيجابيةً إلى مجتمعك المسلم ، وتصعدَ بك أعمالك إلى جناتِ النعيم.

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *