أصبحت في المعهد ، وكأني ضيف أوشك على الرحيل لا أرى أمامي إلا ذكريات الأيام الأولى لوصولي إلى المعهد ، ولا أتخيل في مستقبلي إلا كيفية دخولي الجامعة في المرحلة القادمة، وأتعجب من الفرق الكبير بين قدومي للمعهد في أول يوم ، وإنتقالي منه بعد قضاء ما يقارب العام الدراسي .. فكم هي قصيرة المسافة الزمنية التي عشتها، وكم هي كبيرة المسافة العلمية والنقلة الفكرية التي مررت بها والتي بذلت مجهوداً كبيراً بأن أجعلها إضافة لما أعرفه وتعودت عليه في ديني وعاداتي بعد أن أهذب منها ما يتوائم معي … كم هي الدنيا مليئة بالعجائب والغرائب وكم من العلوم يستطيع الإنسان أن يتعلمها ويستفيد منها إن أراد … أصبحت الآن في المعهد في المستوى الآخير ودراستي تركزعلى زيادة القدرة اللغوية والمفردات وطريقة الكتابة الأكاديمية الصحيحة إلى أقصى حد إستعداداً للمرحلة القادمة ، لم أعد أقضي الكثير من الوقت في المكتبة حيث توزّع وقتي بين الإعداد للسفر إلى السعودية ، وبين الإعداد لإيجاد سكن في الولاية الجديدة أو بالأحرى في المدينة الجديدة ، فربما أكون وحيداً في السكن لأن منصور قرر أن يتزوج خلال الإجازة ويعود مع زوجته التي مضى له أكثر من سنة منذ أن عقد قرانه بها … لهذا تناثرت جميع خططي وتبعثرت أوراقي التي أعددتها قبل أن أعرف بنية منصور في الزواج التي فأجأني بها أو بالأحرى تفاجأت بها لأنني نسيتها حيث ذكرها هو لي من قبل … وبدأت أفكر بالكيفية التي سأبدأ بها هناك وحيداً من جديد … إنما طمأنني منصور بأنه سيبحث عن سكن قريباً مني ولهذا سنكون قريبين من بعض قدر الإمكان … مع نهاية شهر نوفمبر كنا قد أنهينا جميع إجراءات نقل الأي تونتي وأستلمت الأي تونتي الجديد من الجامعة وكذلك منصور … وبهذا لم أعد أرى إلا والدتي ووالدي وأنت وجميع أصدقائي ومعارفي … كم يأخذني الحنين إليكم وكم أتحسر عندما أتذكر بأن أيام الإجازة قصيرة جداً وأنها ستكون أقل من شهر ، كثرت زياراتي للسوق وخلال تسوقي أتخيل كل شخص أعرفه وما هي الهدية المناسبة له ثم أتذكر بأن المسموح لي في الطائرة حقيبتين فقط وأي زيادة لا بد أن أدفع رسوم إضافية عليها ، ولهذا قررت أن أختصر الهدايا الشخصية فقط لوالدتي ووالدي وأخواني وأخواتي وأنت ، أما بقية الأقارب فسوف أُحضر هدية واحدة لك بيت بحيث تكون للإستخدام العام في المنزل وليس لكل فرد في الأسرة … وكلما تذكرت اليوم الذي سافرت فيه ، ورجعت إلى يومي هذا أتخيل كيف سيكون لقاؤنا … قد تجد لدي الكثير من التغيير ليس في الشكل فقط حيث أنني كبرت قليلاً ، وإنما في طريقة التفكير ، والحديث ، والتصرفات ، فأعذرني فلقد تعلمت أشياء كثيرة خلال سفري ، فلا تلومني أو توصمني بأنني غبت سنة وأتيت بوجه آخر ، لا أبداً إن شاء الله ستجدني جوهرياً نفس الإنسان الذي غادرك منذ عام ، متمسكاً بديني ، وبقيمي ، وأخلاقي ، وعاداتي ، وإنما نالني بعض التطور الفكري من خلال دراستي وقراءأتي ، والذي أنعكس على بعض تصرفاتي وتعاملي مع العالم المحيط بي مما جعلني أكثر إستشعاراً للخطأ ، وأكثر تدقيقاً على ما أقول ، وما أفعل وأصبحت أيضاً أكثر إلتزاماً بالأنظمة … فالإنسان كلما كبر كلما تطور من جميع النواحي ، وكما بدأت وقلت لك في الثلاث رسائل الأولى بأن السفر فيه فوائد وعلما ومصاحبة أخيار ، فإنني وبحمد الله وجدت ما كنت أطمح إليه ، وما سوف تراه إن شاء الله هو نتيجة لذلك التغيير الذي أحدثه السفر ، فأرجوا أن تعطني وقتاً كافياً لأشرح لك كل ما سوف تراه مني …. أجد نفسي وكأنني سبقت الأحداث كثيراً ، فالمعذرة إنه الشوق والحنين ، إنه الظمأ للنظر إلى وجه أمي وأبي وأخواني وأخواتي ، إنه الهيام بأهلي ووطني وقريتي التي قضيت فيها كل عمري … ما أحلى العودة كم أتشوق للتمرغ بتراب وطني وكم أتلهف لأداء عمرة خالصة لوجه الله ، وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طيبة الطيبة والصلاة فيه بعد هذا الغياب الطويل عن مكة المكرمة والمدينة المنورة شرفهما الله ، كم أصبو لرؤية البيت العتيق أأأأأأأأأأأأأأأأه ما أطيبه من مكان يشعر فيه الإنسان بكل الطمأنينة والرهبة والسلام ، فأسأل الله أن يكتب لي ما طلبت منه … لقد تذكرت في هذه اللحظة أبياتاً قالها الشاعر طاهر زمخشري رحمه الله وتغنى ببعض منها طارق عبدالحكيم رحمه الله أيضاً ، قالها طاهر عندما كان في الغربة مثلي الآن وهذه بعض أبيات منها :
أهيم بروحي على الرابيه وعند المطاف وفي المــروتين
وأهفو إلى ذكر غـــــاليه لدى البيت والخيف والأخشبين
فيهدر دمعي بآمـــــــــاقيه ويجري لظـــاه على الوجنتين
ويصرخ شوقي بأعمــاقيه فأرســل من مقلتي دمــــــعتين
أهيــــــــــم وقلبي دقـــاته يطير اشتياقاً إلى المسجــدين
أهيــــم وفي خاطري التائه رؤى بلد مشرق الجـــــــانبين
يطـــــــوف خيالي بأنحائه ليقطع فيه ولو خطــــــــوتين
أمـــــــــرغ خدي ببطحائه وألمس منه الثرى باليــــــدين
وألقــــــــي الرحال بأفيائه وأطبع في أرضــــــــه قبلتين
أهيم وللطــــير في غصنه نواح يزغرد في المســــمعين
فيشدو الفــــؤاد على لحنه ورجع الصدى يملأ الخافقين
فتجري البـــوادر من مزنه وتبقي على طرفه عـــــبرتين
تعيد النشـــــــــيد إلى أذنه حنيناً وشوقاً إلى المـــروتين
تذكرت هذه الأبيات التي سمعت أبو عبدالله يتكلم عنها سابقاً في إحدى زياراتنا له ذاكراً قصتها وقائلها ، فيهجت لدي الحنين والشوق إلى الأراضي المقدسة وإلى أهلي وإلى كل من أعرفهم فذرفت فعلاً أكثر من دمعتين ، كم هو عميق الإشتياق وكم هي صعبة الغربة على الرغم من كل وسائل التواصل التي سخرها الله لنا ثم وفرتها لنا التقنية الحديثة ، كم هو مؤلم الحنين وكم هو عذب أيضاً خاصة إذا تعدى ذلك حدود الأشخاص وأرتبط بالأرض والوطن وكم هي الأفكار التي جالت بخاطري وأنا أكتب هذه الرسالة ، وكم هو الحمل ثقيل عندما أفكر بماذا وكيف سأوفي هذا الوطن الغالي حقه وكيف ساخدم ديني ومجتمعي بما سأتعلمه من علم ما الذي أستطيع عمله لأقدم لوطني ومجتمعي جزء من الدين الذي في رقبتي ، فأسال الله أن ييسر لي ولكل طالب علم الأمور بأن ينتفع وينفع بعلمه …بقي أن أقول لك بأننا أتفقنا أنا ومنصور أن نقيم حفلة صغيرة لجميع أصدقاءنا الذين تعرفنا عليهم أثناء دراستنا تكون بمثابة وداع حيث أننا قد لا نراهم مرة أخرى قريباً ، وعندما فاتحنا عصام بالموضوع فاجأنا بأنه اتفق مع عدد من الطلاب بأنهم هم من سيقيم الحفلة الصغيرة لنا ، ألجمعت المفاجأة ألسننا ، وعرفنا أن هذه واحدة من الفوائد الجمعة للإبتعاث حيث أن من تعرفنا عليه يمثلون جميع مناطق المملكة والحمد لله .. أعتقد أن هذا يكفي الآن … سأرسل لك رسالة خاصة أعلمك فيها بموعد وصولي ورقم رحلتي … فإلى لقاء قريب إن شاء الله والسلام عليكم.
خاتمة الرسائل
أعزائي القراء الكرام في صحيفة غران الموقرة وفي كل مكان وصلته هذه الرسائل ، كنت قد بدأت هذه السلسلة من الرسائل بعد حديث تلفوني شيق مع الأستاذ أحمد عناية الله الصحفي رئيس تحرير صحيفة غران عن الدراسة ، والإبتعاث وتطرق إلى أشياء أخرى كثيرة وصلنا في نهايته إلى أنني ألتزمت له أدبياً بأن أكتب عن تجربة الإبتعاث ، وفي الحقيقة لم نتفق على آلية معينة أكتب بها ، ولم يخطر ببالي ماذا سأكتب ، وإنما بعد أن كتبت الصفحة الأولى من تجربتي الخاصة إذ أنني مرافقاً لإبنتي وبقدرة قادر كريم تحولت إلى طالب ومرافق في نفس الوقت ، وبما أن تجربتي لم تكن مشابهة لتجارب الطلاب العاديين ، وإنما وبناء على إحتكاكي المباشر مع الطلاب من خلال الدراسة والأندية الطلابية ومن خلال تجربة إبنتي في الإبتعاث وما تنقله لي إبنتي عن بعض الظروف التي يمر بها بعض الطالبات عرفت الكثير مما يمرون به ، ولهذا وجدت أن موضوعاً واحداً أو رسالة واحدة لا تفي بما هو مطلوب ولن تعطي صورة أشمل عن برنامج الإبتعاث ، ولهذا أتفقت مع الأستاذ أحمد على أن أكتب على شكل رسائل أسبوعية عن تجربة الإبتعاث ، ولم يكن هو يتوقع أن تكون بهذا الشكل الذي قرءاتموه ورأيتموه ، وأنا أيضاً لم يخطر ببالي إطلاقاً أن أستمر لهذا العدد من الرسائل إلا بعد أن كتبت الرسالة الثالثة ، فوجدت أن الموضوع أكبر من مجرد ورقة أو ورقتين أو رسالة عادية ، وإنما تجربة كاملة كان لزاماً علي أن أضع فيها بين يدي القاريء الكريم الكثير مما رأيته وسمعته وقمت به ، ولهذا بعد أن أرسلت للاستاذ أحمد الرسائل الثلاث الأولى شجعني على المواصلة حيث أفرد لها مكان ثابتاً في الصحيفة ، فجزاه الله خيراً على ذلك .
وقد لاحظتم بأنني لم أتطرق إلى أشياء كثيرة مثل اللكتابة بإسهاب عن البحث عن المساكن ووضع أسماء مجمعات سكنية محددة ، أو مطاعم ، أو مدارس خاصة أو أطباء ولم أضع أي عناوين لأي جهة تجنباً لأي دعاية لأي جهة وكذلك تفادياً لتوجيه البعض إلى جهات قد لا تتوافق مع رغباتهم ، مع العلم بإن كل ما ذكرته من تجارب في الرسائل فقد وقع بالفعل وصحيحاً بنسبة عالية جداً وإن لم أكن شرحته بتفاصيلة فذلك لإخفاء شخصية الأشخاص الذين وقع منهم أو رأيته منهم ، وبما أن الرسالة الرابعة والعشرين هي آخر الرسائل في هذه السلسلة ، فإنني أدعوا الله سبحانه وتعالى أن أكون قد وفقت في نقل ما كان فيه الإستفادة والمنفعة لكل من له مبتعث مسافر ، ولكل من هو على أبواب إبتعاث أو هو مبتعث أصلاً … وإن كنت أغفلت بعض الأشياء أو مررت عليها مروراً سريعاً فربما يكون لعدم أهميتها القصوى أو لأسباب أخرى … لقد كنت خلال الرسائل أتكلم عن مواضيع وأقول بأنني ساكتب عنها لاحقاً ، وربما لم يسعفني الوقت للكتابة عنها ، وبإذن الله سوف أعود إلى قراءة الرسائل من جديد وأوفي بكل أو ببعض ما وعدت به حسب أهميته إن شاء الله على فترات بحيث تكون على شكل مقالات منفردة عن كل موضوع على حدة .
يسعدني هنا أن أتقدم بالشكر الجزيل إلى صحيفة غران الإلكترونية ممثلة في رئيس تحريرها الأستاذ أحمد عناية الله الصحفي وكل القائمين عليها ، وإلى جميع القراء الذين تفاعلوا مع رسائلي وعلقوا عليها ، وإلى كل من قرأ رسائلي ولم يعلق وأدعوا الله أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح ، وأن يجعلنا دائماً نافعين لأنفسنا وللآخرين ، وإنني أرجوا من كل من لديه إقتراحات أو ملاحظات أن يتواصل معي على البريد الإلكتروني المدون أدناه مع تكرار شكري وتقديري للجميع ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم عبدالعزيز بن مبروك عتيق الصحفي
تامبا – فلوريدا – الولايات المتحدة الإمريكية
البريد الإلكتروني : [email protected]