بسم الله الرحمن الرحيم ..
يقول الله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) ..
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في شأن السفينة والقوم الذين استهموا عليها ، فعن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما عن النبي – صلي الله عليه وسلم – قال : “مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينه فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا علي من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا علي أيديهم نجوا ونجوا جميعا” .. (رواه البخاري ) .
وها نحن نعود مراراً وتكراراً ولن نمل بإذن الله تعالى في التنبيه على هذا الهوس والجنون والإستهتار بالأرواح الذي يجري في شوارعنا وطرقاتنا من قبل بعض الشباب ، الذي أبى إلا أن يتمادى في استهتاره وعدم مبالاته بأرواح الاخرين ، وبرغم الكم الهائل من الخطب والمواعظ والدروس التي يلقيها المسؤولون عن توعية الشباب بمخاطر هذه الأعمال التي يقومون بها ليل نهار .
فياليت وأتمنى أن يكون العود بعد الآن أحمد …
وها نحن نرى أن شبابنا يكادون يفنون أنفسهم بهذا الجنون وعدم المبالاة بالأرواح ، ففي كل يوم بل في كل ساعة والأدق في كل ثانية نرى حوادث الطرقات تأخذ منا من نحب .. تأخذ من أرواحنا ومن أنفسنا ومن عتادنا وعدتنا ومستقبلنا ..
كم نصحنا وكتبنا الكتاب والمهتمون بشؤون الشباب والأسرة حتى بحت أصواتهم من كثرة المناداة وجف ريقهم ولكن لا مجيب ، فكل يوم نرى ونسمع وتنصب موائد العزاء لمن قتلوا أنفسهم بالسرعة والتهور بلا طائل سوى التقليد للآخرين الذين سبقوهم في هذا المجال وفي هذا التهور..
وتصوروا معي هذه الصورة القاتمة … فلنفرض أننا هيأنا مقابر خاصة لقتلى الطرقات ، وعقب شهر فقط قمنا بحصر من دفنوا فيها ، ثم قمنا بحسابات بسيطة للمستقبل على هذا النحو ، لهالنا الأمر واستفظعنا النتيجة …
والله لقد تحيرت فعلاً في اختيار اسم لهذا الأمر الذي نحن فيه …
بالله عليكم قفوا عند باب إحدى المستشفيات وتأملوا الكم الهائل من سيارات الإسعاف وهي ترد تباعاً حاملة ضحايا هذه المركبات ، ولا أدري هل من الحكمة أن أشير بقولي “ضحايا المركبات” ، والمركبات هي عبارة عن جماد لا عقل لها ولن تتحرك من تلقاء نفسها ، وإنما يحركها قائدوها ..
إذاً من الإنصاف أن نقول أن المركبات هي الضحية ، فهي صنعت لراحتنا وهي نعمة قد أنعم الله بها علينا ، فبدلاً من أن نحمده عليها أخذنا في كفرانها باستهتارنا وتهورنا وجنوننا .. ولا أدري أهي ضريبة هذا الثراء والغنى الذي نعيشه ونتمتع به أم ماذا …
نلتفت قليلاً إلى من حولنا من البلدان الفقيرة التي لا يجد ساكنوها أجرة ركوب هذه المركبات ، لتحمل عنهم أثقالهم عوضاً عن التنزه بها وعمل السباقات بها في الطرقات العامة من شباب غير واعي ، رغم الإدعاء الأجوف بأنهم قد واكبوا المجتمعات المتحضرة وهذه هي حالهم ..
فيا منصفون احكموا بعدل ووعي دون مجاملات فارغة ، فربما لو اعترفنا بقصورنا شددنا سواعد الهمم محاولة منا إصلاح ما فسد من أخلاقنا بسبب انفتاح الدنيا علينا …
وهنا تقفز إلى مخيلتي رائعة من روائع تاريخنا الجميل ..
إن محمد بن القاسم الثقفي فتح بلاد السند كلها وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره ، يالله رحماك يارب ..
وأقول وتكاد العبرة تقفز من عيني والألم يعتصرني .. بعض شبابنا لا يجيد إلا فتح باب السيارة والإنطلاق بها نحو المجهول ، ليرن الهاتف ليخبرك من في الطرف الآخر منه أن فلان الذي انطلق قبل قليل قد أكل من قبل سرعته وتهوره ، ويحضر أصحابه عزائه وبعدها ينطلقون لنفس المجهول الذي دخل في ظلامته صاحبهم دون أن يتعظ ..
وياليت أن من يقوم بمثل هذا العمل يكون هو صانع هذه السيارة أو جزء منها ، عندها قد نعطيه بعض عذر ولاعذر للمتهور… ولكن البعض من قائدي هذه المركبات لا يستطيع حتى تبديل عجلة السيارة إن ثقبت ، عوضاً عن مقدرته أن يصلحها إن تعطل شيئ منها .. فقط قيادة بجنون وتهور ..
وبعد هذا ألا يجدر بالآباء أن يقتطعوا بعضاً من وقتهم الثمين ويخرجوا من استراحاتهم وأماكن استجمامهم ليعقدوا وبصدق وحضور قلب ووعي بواجب المسؤولية اجتماعات دورية لنقاش هذا الأمر الذي يفتك بأبنائهم وفلذات أكبادهم ويأخذوا على أيديهم باعتبارهم سفهاء وقصر ، خوفاً عليهم من الإنزلاق إلى هاوية التهور وهلاك أنفسهم ، فتعقب ذلك حسرة وندم يوم لاينفع الندم ، والأخذ كذلك على أيدي الآباء الذين يسلمون أبنائهم مفاتيح سيارات لينطلقوا بها دون أدنى تفكير أو مسؤولية ليقحموها في حوادث يذهب ضحيتها أناس لا ذنب لهم سوى أنهم شركاء في الطريق هم وهؤلاء المتهورون عديمي المسؤولية الذين أفسدهم دلال الآباء والأمهات وأبطرتهم النعمة …
نعم أقول بجد .. يجب أن يجتمع حكماء كل مدينة أو محافظة أو قرية أو على الأقل كل أسرة ليقرروا وقف هذا النزيف من مقدرات الأسرة والوطن والأمة ، أم أن هذا صعب أو مستحيل أو نجعله في مصاف الغول والعنقاء والخل الوفي …
أسأل الله أن يردنا إليه مرداً جميلاً ويحفظ الأمة .
“إبراهيم يحيى أبوليلى”
مقالات سابقة للكاتب