وقائع من الواقع (٨)

(من لسجين الغربة؟)

كم في الواقع من القصص المعبرة التي – لو نطق بها – لأصغى له السامعون بلا ملل ..

وكثير منها نلمس بوضوح أن عناصرها لاتتجاوز ثلاثة أو أربعة ، لكن واقعيتها تجعل روايتها تقترب من الخيال !

فسيناريوهات الأفلام والتمثيليات تستلزم عددا من الممثلين ، وزمنا من البروفات ، وانتقاء للمبدعين المتمرسين .
وأكثر مايشقي المخرجين تمثيل المشاعر !

لكن الواقع بقصصه ينطق بمبادئ قيمة ، ويكتب بقيم سامية ، تغذى بها أشخاص من ينابيع الهدى التي ارتوت بعذبٍ نقي من السماء نزل ( إن هو إلا وحي يوحى ) فأنبت أخلاقا ذات بهجة ..

الواقعة التي سأرويها لكم قصة من الواقع الحديث أوجزها فأقول :

وافد جاء ليعمل ، غير عربي ، وكم علمنا من أحوالهم ، فقراء تركوا خلفهم والدين وعيال يحتاجون لقمة تسد جوعهم وثوبا يستر عريهم ، وهم مسلمون هكذا قدرهم .

-كان يسير بمُعِدّةٍ صغيرة ليلا ، ماشعر إلا بصريخ دواليب سيارة (تصرخ تفحيطا ) على الإسفلت خلفه ثم تنحرف وتصطدم بالجسر المحيط بالطريق وتنقلب بطنا على ظهر !

واصل سيره ،لكن الشرطة قبضت عليه واتهم بأنه السبب في الحادث ! وأودع السجن ، وحُمّل التعويض عن كامل تلفيات الحادث ، ومن أين لطالب المال أن يعطيه ؟ أصبح غريبا فقيرا سجينا مطلوبا ، لو عُرض عليه الموت لاختاره من دونها !

وباءت بالفشل كل محاولات بني جنسه الذين حاولوا مساعدته ، ولم يجدوا لاسعدا ولاسُعيدا ولاشصعا من خفي حنين ..

وهم في حسرتهم قال لهم آخر عبر الهاتف اذهبوا لفلان ، هناك في قرية أخرى ، (سعودي مطوع) هكذا قالوا …

جاؤوه بليل ، فهم عمال مرتبطون ، وربما خلفهم جبارون ، يكذبونهم إن قالوا ، ولايأمنونهم ولايثقون في وعد منهم ، ويغرمونهم ويحملونهم تكاليف مالية ليست من مسؤولياتهم ، ويضطرونهم للتنفيذ تحت سلطة التهديد بالخروج بلا عودة .

-جاؤوه بليل وشكوا حالهم قبل حال السجين وطلبوا منه المساعدة لفك أسره وأخبروه أن عجوزين هناك هما والداه وأطفال هم أولاده وأمهم تكاد أكبادهم تتفطر حزنا وخوفا عليه لاينفكون بكاء !

يقول لي الرجل : رققت من حاله وحالهم ، لا أعرفهم ولاهم يعرفونني ، لكنني عزمت على فعل كل مافي وسعي لمساعدتهم ، وشجعت نفسي أخاطبها قائلا ( لو جاءك أحد من القبيلة أو ممن تعرفين كيف ستفعلين ، وهؤلاء المساكين لاحيلة لهم ، أقفلت الأبواب في وجوههم ؟) – تواصل الرجل مع الجهات الرسمية ليعرف ما المطلوب من هذا الغريق ليشم هواء الحياة ، ثم مع بعض أهل الجاه والمكانة ليساعدوه لكن لم يتحقق شيء ، لايجد إلا ضعف العزيمة قد كساها البرود فانقعرت بأصحابها ، حتى أنه لم يجد من يصحبه فيما قرر فعله ، فشد ركابه حتى وصل لصاحب الحق واستطاع أن يصل معه لاتفاق بصعوبة ليدفع تعويض مالي كبير ويحصل على تنازل منه ولم يمهله للدفع سوى أربع وعشرين ساعة أو يمسي الاتفاق لاغيا ..

وخرج الرجل يستجدي ويسترفد ، جمع المبلغ المطلوب وسلمه في الموعد المحدد ، وقد ذكر لي ما تعجب منه من سخاء المقلين وكرم الموسرين وكان أكثر ماناله من التعجب أن نساء شاركن ماليا ولسنا صاحبات دخل !

وامرأة تعرض إسورتها الذهبية للمساعدة ، وحُقّ له أن يعجب فتلك قيم المسلمين يجدها حية لم تزل ، والعرب منهم والله هم أولى بها ، فتلك أخلاقهم من غابر الأزمان .

حصل الرجل على التنازل ، وبقي استكمال إجراءات إخراج السجين ، فجند نفسه وصرف من وقته ليراجع الدوائر المعنية وهي على مسافة سفر ، حتى تم الإفراج عنه ، لكن هل تتصورون كم المدة كانت ؟ إنها عام كامل !
وخرج لكنه ليخرج كذلك خروجا بلا عودة !

ومن المحزن كثيرا لو صدق ذاك الصوت الذي كان يتمتم قائلا( إن في تقرير الحادث إنّا) وليس هذا مايعنيني من سرد هذه الواقعة ، إنما لأقول لازلنا بخير ، وهذه واحدة من شواهد مبادئنا وقيمنا ، نحن أمة الإسلام، وأن فينا من لايزال يقرأ ويعي قوله تعالى ( إنما المؤمنون إخوة ) وقول نبينا صلى الله عليه وسلم ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته).

مقالات سابقة للكاتب

17 تعليق على “وقائع من الواقع (٨)

عبدالرحمن عبدالحميد الصحفي

شكرا لمثل هذي المقالات

عبد الحميد مهنا الصحفي

جزاكم الله خيرا على هذا المقال ، قصة مؤثرة فيها دروس وعبر وفوائد لمن التذكير فيه يثمر .

ا

قيم سكنت نفوس معطاءة فتحركت بها همم عالية
حركت المشاعر أبا رائد فشكرا لك ولاختيارك

فاطمة .ح

الحمدلله على ان الخير مازال في اهله استمتعت جدا بقراءة النص سلمت يد الكاتب

أبومحمد

ماشاءالله يا أستاذ أحمد إنتهيت من القراءة وودت أنها كتابا فيه المئات من الصفحات نفع الله بك ووفقك وجزاك خيرا

💐💐💐💐💐💐

عابر أوقفه مقالك

قصة مؤثرة وعبرة لكل معتبر ..الحال لايدوم .. ورفقا بالغريب 💔

غير معروف

جزاك الله خير موضوع يستحق المتابعة

أم سامر

قصة مؤثرة واسلوب مصور
جزاك الله خير اخي ابو رايد .. والموفق من وفقه الله
تذكرت قول النبي عليه الصلاة والسلام ،،
“مَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه بها كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيامَةِ، ”

{ومن مشى مع مظلومٍ حتى يُثْبِتَ له حقَّه ؛ ثبَّت اللهُ قدمَيه على الصِّراطِ يومَ تزولُ الأقدامُ} متفقٌ عليه .

فهنيئاً لمثل هذه النماذج بمثل هذا العمل

العباسي

جزاك الله خير أ.أحمد نشكرك على هذه القصة الهادفة والتي بها الكثير من العبر
وحقيقة قرأتها بدون ملل وذلك من أسلوب الكاتب الذي حلق بنا في عالم الخيال وكأننا نرى أحداثها وأصحابها أمام أعينا فعشناها بكل تفاصيلها وأبارك له انتقاء الكلمات العميقة فكل كلمة تعبر عن أسطر

غير معروف

قصة كتبت بحروف الواقع ، وجمال القيم، واسلوب الأخوة
فما اجمل الاخاء في الله، فبالاخلاق نسمو ونرقى فهي كالنجمة في سماء الاخوة في الله ،
بورك القلم وسلم الفكر وجزاك الله خيرا على الابداع .

أ.نويفعة الصحفي

مقال جميل وانساني صميم ووقفه تستحق التأمل ..
شكراً لكم ا. احمدبن مهنا تعودنا منكم الوقفات النيرة .

إن منفعة الناس من أعظم القربات إلى الله تعالى
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الناس أحب إلى الله ، فقال: أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي له دينًا أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، يعني مسجد المدينة شهرًا ..الخ
وكشف الكربة أن يخفف المسلم عن أخيه وقعها ويحمل معه ثقلها ويعينه عليها بنفسه أو ماله أو جاهه أو رأيه أو مشورته . إذ ان أعباء الدنيا ثقال ، وشدائدها ذات أهوال ، والإنسان وحده يعجز عن مواجهتها وقد ينوء كاهله بها ، فإذا ما أعين عليها نجا من شرها والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ، فإذا ما تساندت الجهود وتعاون الناس هان الخطب الجلل ، والكدر والتعب .
وانفرج الكرب والتعاون في مثل هذه الظروف قيمه انسانية عظبمة .
بل انها ضريبة إنسانية يؤديها المرء زكاة عن عافيته وجاهه .
والتفريح أعظم من التنفيس ، فالتنفيس يعطي معنى التخفيف ، أما التفريج فمعناه أن يزيل عنه الكربة حتى تنقشع غمتها وتزول ، ولكل عمل جزاؤه ، فجزاء التنفيس التنفيس ، وجزاء التفريج التفريج، ويوم القيامة يتلمس الناس فيه المنافذ إلى رحمة الله وعفوه ، ولا شيء يزيح الكروب بعد رحمة الله إلا ما قدم الناس من صنائع المعروف ، فكل إنسان في ظل خيره وبره .
جعلنا الله ممن يحرصون على عمل الخير ومنفعة الناس وهذه من اعظم القيم التي يتسم بها المسلم مع اخوانه .
نكرر لكم الشكر كاتبنا القدير .

عواطف الثلابي السلمي

تَمنيتُ أَنَّ لَا تَنْتَهِي هَذِهِ اَلسُّطُور
جدًا جميل والراحمون يرحمهم الله عز وجل
وفي اقدار الله حكمه ولطف ورحمه
والحمدلله على كل شيء

‏شكرًا لك المقال رائع

محمد مرعى الصحفي

جزاك ألله خير الجزاء استاذانا ابا رائد قصه موثره وفيها عبر كثيرهوهذى هى نعمة الإسلام لا تعرف قريب والا بعيد انها أخوة الإسلام التى جعلة هذا الشخص يقوم بمساعدة شخص لايعرفه

ابوعاصم.

قصة مؤثرة !
بقلم فاخر وفكر رائد تزخر بالدروس والعبر …لكنها أقدار الله تجري على المؤمن تظهر لنا أشياء وتغيب عنا أشياء. وعند الله تجتمع الخصوم !
بوركت استاذنا الغالي .

أم عمر

قصة مؤثرة جدًا .. وأسلوب كتابة أكثر تأثيرًا جعلنا نعيش القصة ونشعر بها وذلك لما تحلى به من جمال وروعة وما حملته عباراته من صدق .. فقدم لنا نموذج حي للخير الذي يسكن قلوب الكثير من أهل هذا البلد المعطاء ممن يحتسبون الأجر عند الله ..
جزا الله صاحب القصة والكاتب والناشر خير الجزاء وكان في عون كل من يعاني من عباده المؤمنين ..

سليمان مُسلِم البلادي

*أحمد بن مهنا الصحفي*
يمنح الحرفَ بلاغةً،ويُوُّدع كلماته بياناً؛فيُحيّل القصصَ في مقالاته إلى لغةٍ لا يسمعها إلَّا مَنْ رَقَّ قلبه،ودنا عقله من مواطن الحكمة والبصيرة.
رَجلٌ يقف على حرفهِ عنايةً وتمحيصاً؛ليغدو القارئ في حالة تماهٍ تام،وتناغمٍ مع رشد معناه وحُسن مبناه.

أحمد مهنا

لكم وافر شكري وتقديري أيها الفضلاءجميعا ، سعدت بقراءتكم لما كتبت وبتعليقاتكم الجميلة التي أثرت المقالة وبما أثنيتم به على كاتبها ، شكرا أكرره لكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *