الأنوثة الجسورة
حضور (الذات) و(الأنا)
في ديوان مستورة العرابي
(مقاربة نقدية)
(1) فاتحة:
… و(مستورة العرابي) اسم شاعري بدأ يفرض نفسه في مشهدنا الثقافي، التقيتها في نادي الطائف الأدبي ذات أمسية أدبية فأهدتني ديوانها الأول: “ما التبس بي.. ماغبت عنه. وأدهشني – أول ما أدهشني وملأني إعجاباً – ذلك الإهداء الذي كتبت فيه: إليك ما التبس بي.. ما غبت عنه.. لعله يجد في روحك المعنى الذي يعرج به..”.
استوقفتني هذه الكلمات الشاعرية بعذوبتها ودقتها ودلالاتها، ولما قَلَّبتُها على كل الاحتمالات تبين لي أنها تصدر عن ذاتية واثقة!! ينبئ عن ذلك ضمائر المتكلم/ بي، غبت، ولما قرأت الديوان كاملاً تأكد لي هذا الاستنتاج الأولي.
كما تبين لي أنها تنتظر شيئاً من التغذية الراجعة التي تستبطن المعاني الكامنة في الديوان والتعرف على ما بين السطور والقوافي من صور ودلالات تعرج بالديوان وبصاحبته إلى مراقي النقد والتحليل والتأويل!!
وهذا ما ستقودنا إليه هذه المقاربة النقدية.
# # #
(2) لم تكن (الذاتية) و(الأنا) – في كل الديوان – إلا حجاباً/ قناعاً تتوارى خلفه (أنوثة جسورة) تأكدت لنا في قصيدتها الأخيرة في الديوان الموسومة بـ(نار الكلام) إذ تقول في مقطوعة عمودية/ بيتية على البحر البسيط:
“أرقُّ.. حتى أرى في الماء تأويلي
تعبت أشرح آياتي وتنزيلي
….
منذ انقلبت على الأوراد.. أغنيتي
بسيطة.. وكلامي نار قنديلي
أسير في وحشة الأوراق مصغية
إلى اليقين الذي يدنو ويصغي لي
لأن أنثى تجلت فيَّ فانسكبت
باسمي.. تخليت عن أسباب تأجيلي”
[الديوان ص ص 133-136]
النَّص بكامله يشير إلى (الأنا) الواثقة، و(الذاتية) الجسورة بكل دلالات الأنوثة التي احتالت على النَّص العمودي/ البيتي/ الشَّطري كتابة ووزناً وقافية، لينكتب على نظام التفعيلة والطريقة السطرية. وفي هذا تحايل لاواعي تستدعيه تلك الذاتية الأنثوية!!
كما تجلت تلك (الأنوثة الجسورة) في آخر مقطع من القصيدة الموسومة بـ(لم تمتحِنِّي قوةٌ في الأرض)، إذ تقول:
“لم تمتَحِنِّي قوة في الأرض
قلبي سورة الإنسان
مملكتي الفضاء الأنثوي
وقبلتي شعري
ولكني أميل مع الرياح
وأنا..
السكوت على التراشق
أتقي شر الحماقات الغريبة
بالتودد
ضحكتي وتر القصيدة
والتفاتي لا يهم سوى ليغفرَ
والرضا قدري الجميل
وظل أيامي وشاح”
[الديوان ص ص 127-129]
هنا نجد (الأنوثة) التي لا تختبئ، والتي لها أن تقول، والتي لها اختياراتها، والتي تضيء وتغفر والرضا قدرها الجميل!!
إنها (الأنا) و(الذات) المتعالية، المتصالحة مع نفسها ومع واقعها الأنثوي تميل مع الرياح ولا تصادمها، تسير مع التيار ولا تواجهه!!
# # #
(3) تتشظى (الذاتية) و(الأنا) في هذا الديوان إلى ذوات فردانية وجمعية، مستبطنة بعض (الأنوات) الساخطة والمتألمة، والمنكسرة، وربما الإقصائية في بعض الحالات!!
فعندما نتهجى ملكوتها نجد الأرض تدور حول مقامها الأنثوي:
“في روحها كل الكلام قصائد
ما أجمل الإنسان وسط كلامها
تقف الجبال مهابة لجلالها
ما العقل إلا كبرياء تمامها”
[الديوان ص ص 43-44]
وعندما تعترف بالعشق، تدور في ثنائيات (الذاتية) وتنمو (الأنا) من داخل هذه الاعترافات فتبدو (غيوم الأنوثة) كسجانٍ يغلق الأبواب ثم يفتحها:
“علقته.. أدري بغيم أنوثتي
ما أجمل الأيام إذ علقته
لم أحتمل.. شوقي إليه يهزني
لا خير في قلبي إذا أرهقته
عيناي تسرقني بعيداً عن دمي
وأنا بسكر العارفين سرقته
أأحبه؟! كلِّي غرقت بحبه
وأنا بروحي كلها أغرقته”
[الديوان ص ص 83-85]
وعندما تتشكل المعرفة والوعي بالأسئلة ينبثق ضوء القصائد المتسربلة بـ(الأنا) الكاملة:
“كنت الوحيدة..
لم أذق يوماً كناياتي
….
الكبرياء خطيئتي الأولى
وقلبي ما تدلى من مزاج الليل
والذكرى جمالي
أنا وردة التلويح/ أذهب في العناوين الشهيَّة/
أرتقي وجعي/ وأفصح عن جلالي
…..
تعاوذي جرار الريح…
أقصد ما أقول..
ولا أحنُّ سوى/ لموسيقى السؤالِ!!”
[الديوان ص ص 75-77]
# # #
(4) في ظني – وبعض الظن حَسَنٌ – أن جماليات الشعرية عند مستورة العرابي تقوم على فنيَّات التعريف بـ(الذات) أو لنقل تسويق (الأنا/ الشاعرة) من خلال الفضاءات الشعرية التي تنتهجها في هذا الديوان وسواه من القصائد التي تنشرها ولما تجمع بعد.
ذلك أنك – كقارئ – تعيش هذه (الأنوات) منذ العتبات العنوانية، كما في العنوان الرئيس: ما التبس بي – ما غبت عنه.. وعناوين القصائد:
– أطل على الورق الأخضر.
– تكاد تلمسه روحي.
– الفقد لم يأخذك مني.
– وردة في يدي.
– الضوء يشبهني.
– أنا ظل مراياي.
– أنا امر’ تميل.
– لم تمتَحِنِّي قوة في الأرض.
وإذا توغلت في المتن والمضامين الشعرية، تطل عليك هذه (الأنا) وتلك (الذات) في كل القصائد – تقريباً – مما يجعلك – كقارئ – وناقد – تقف أمام هذه الذاتية وتداعياتها، فتسبر غورها، وتؤول دلالاتها، وتبين إيحاءاتها الرامزة المستترة والمعلنة.
ولعلنا نقف مع أيقونتين بارزتين في هذا الديوان ذاتي النزعة/ أناني المعجم وهما الذات الشاعرة والذات الأناسية. فأما الذات الشاعرة فتتجلى من خلال مقولات شعرية دالة على امتلاك النواصي الشعرية والتأكيد على المقدرة الشاعرية، من مثل قولها:
– قلبي على باب القصيدة مؤتمن ص 11.
– إنني عرابة المعنى وفاتحة الكلام ص 52.
– والقصيدة وردتي الأولى ص 60.
وأما الذات الأناسية فتتجلى عبر هذه المكونات الشعرية:
– قلبي سورة الإنسان..
مملكتي الفضاء الأنثوي.. ص 128.
– وأياتي سماء قد تجلت
أنا امرأة تخف بها البلاد ص 118.
– سفري إلى مدن معلقة
لهذا الغيم في قلبي ولم يمطر
فصل من كتاب المؤمنين بحتفهم ص ص 63-65.
– غَنُّوا كأسراب الحمام
ولتخرجوا من ظلكم نحوي تباعاً ص 52.
– في روحها كل الكلام قصائد
ما أجمل الإنسان وسط كلامها ص 44.
وكل هذه (الذوات) الشعرية عائمة في سماوات اللغة والروح، لا يحدها زمن/ تاريخ، ولا يطوقها مكان/ جغرافيا فهي سابحة في البحور الشعرية من وافرها إلى بسيطها، ومن المتقارب إلى المتدارك!!
وختاماُ:
فلن تقف هذه الورقة النقدية عند مراودة الديوان وما فيه من مضامين شعرية بل ستتجاوزه إلى القصائد المفردة التي لم تجمع في ديوان جديد.. وكأني بالشاعرة تحاول الولوج إلى تجربة شعرية أكثر حداثة، في مراميها وصورها ولغتها – وهذا ما كان متوقعاً ومأمولاً في نفس الآن – ولكنني وجدت نفسي أمام تلك الفضاءات التي أسلمتنا إليها المدونة الشعرية المجموعة في الديوان.
هنا – في النصوص الثلاثة التي بين أيدينا والمعنونة بـ: اشتقاق الهواء، في معطف الكلمات، تخطئ في النقور غزالة)، نلحظ نفس البواعث ونفس الاستجابات، فالبواعث أو المثيرات تنحاز للذاتية الأنثوية من خلال خطابها النسوي، وعبر متعلقات الأنوثة من أقراط، كحل، الضعف الحميم.
أما الاستجابات فتتشكل عبر دلالات بحث عن أفق شعري ما ناله أحد، وعن إنصاف المتلقين لشعريتها والرضا بما تقول، والمحاولات الحثيثة لاجتراح القصيدة الجديدة. ولعل المقاطع التالية تؤكد ما أتينا عليه.
تقول في نصها “اشتقاق الهواء”:
“لا شك أعرف/ كم فشلت بلا جدال/ في اشتقاق هوائي النفسي..”
وتقول:
“بيضاء ذاكرتي/ يوجعني التلصص خلف أبوابي/ أنفت من التزاحم في ممرات الجماهير الغفيرة/ لم أثق بالواقفين على نصوصي/ دون وعي بالفجيعة…”.
وتقول في نصها “في معطف الكلمات”:
“لي أن أغيب كما تشاء لي القصائد: في رهانات الطريق/ ولي خسارة من تمنوا أن تهب الريح/ لم أسقط/ تخطيت المزاج الصعب/ بالآيات/ بالخجل السخي….”.
وتقول:
“ذَهَبُ المجاز توتر/ أخفي به ضعفي الحميم/ ألوذ باللغة التي لم ترتكب إثم التوسل…”.
وتقول في نصها “تخطئ في النقول الغزالة”:
“يتهيأ المعنى/ ويفلت عنوة مِنِّي/ مطال القرط أغنية مهادنة/ وباسم الكحل أنسى الباب مفتوحاً/ وفي عينيَّ أسئلة الأنوثة…”.
وتقول:
“في الليل يملكني الهواء/ أعيد تشكل الغبار من الخرافات القديمة/ أسترد طفولتي الأولى…”.
وبذلك فالشاعرة (مستورة العرابي) تتسور المدى بحثاً عن قافية، وتتوسل القارئ إنصافها وإن لم يكن ذاك فهي تقول:
“تشبثت روحي بعزلتها
وقايضت الهوامش بالمرايا
لم أخف مما يقال على الرصيف
ذهبت سيدة على سهلِ”!!
ولعلي في ختام هذه المقاربة النقدية أن نعتبر هذه القصائد الثلاث امتداداً للتجربة السابقة في ديوان: “ما التبس بي.. ما غبت عنه”، وتنطلق في تجربتها الثانية عبر التعالقات المجتمعية وإذابة (الأنا) في الغير والآخر والتنامي عبر المشترك الإنساني والمحاقلة مع النماذج الثبتيَّة والبردونية والجواهرية في زمن المعاصرة والحداثة، إضافة إلى ما يليق من المدونة الشعرية الماضوية تراثاً وحضارة شعرية كأبي تمام والمتنبي وأبو القاسم الشابي!!
وبعد ذلك كله سننتظر أن تكوني في كما قلتِ في آخر نصٍّ:
“غوية في فيافي الرشد/ قافيتي/ لم تستطع بنيةٌ تأثيت تشكيلي.
…
عرفت/ لم أرتكب ذنباً ألوذ به/ فسيرة الريح لم تقرأ مواويلي.
…
صليت نافلتي/ ولم أضع دون غاياتي تفاصيلي/ فصَاحتي سورة الأعراف/ زاهدة في كل معنى/ ولي غرسي ومحصولي”.
شكراً لهذه (الأنوثة الجسورة) التي أوحت بكل هذه المداولات النقدية.
والحمد لله رب العالمين.
مساء الثلاثاء 1/6/1443هـ
مقالات سابقة للكاتب