قراءة نقدية في قصيدة (عتمة الغياب)

قراءة نقدية في قصيدة (عتمة الغياب) للشاعر الأردني يحيى جوابرة
**************************
الإبداع الفني يعتمد على خواص الشخصية الفاعلة ( عقيدتها وطبيعتها، صدقها وحسن نيتها، وذكائها وموهبتها، وتجرتبها وقدرتها التعبيرية عن الحشرجات التي في الصدر ، وهذا ما لمسناه في شخصية المبدع الجوابرة التي لعبت دورا مميزا في مجال الخلق الفني الشعري، وصناعة الصور الشعرية ذات الأبعاد الدلالية، والمعاني العميقة التي لعبت الموهبة الذاتية دورا كبيرا في صياغتها، وفي اكتمالها وفي غناها.
 
إن روح الشاعر، وشخصيته الشعرية تظهر من خلال جذور آلامه التي نمت عميقا في أرض المجتمع فهو عضو ممثل للمجتمع والزمن، والإنسانية، حيث أن الشاعر الجوابرة عبر في قصيدته الشعرية عن غزارة حياته الروحية، وأحاسيسه المبللة بالحنضل والعلقم تجاه ( فقد الأم) التي لانلامسها في ذات الشاعر ومكنونه الداخلي فقط ، بل في داخل المجتمع الإنساني ككل، إذ انه تناول قيم إنسانية نقية طاهرة عبرت عن أصوات الحزن الشفيف للمجتمع البشري، وآهاته الدفينة المختزلة التي ضاق بها فضاء التعبير، واضمحلت وتقزمت في مقام غياب الأم ، وهذا مانراه في التعبيرات الحانية للجوابرة التي عبرت عن بواطن الروح بتجليات دلالية عميقة نقرأها في هذه الفاتحة المعبرة عن مغاليق النفوس إذ قال :
أصاب القلب بالحزن اشتياق
وأضحى العمر ضيما لايطاق
لقد رحلت عن الأنظار امي
وأتعبني أسا هذا الفراق
 
وكذلك نجد الإتساع اللغوي والدلالي عند الجوابرة في تجليات الأنين والإنكسار التي جسدت الألم والوجع الذي يحيا في النفوس في مقام الفقد، وهذا ما جعلنا نجد في عمله الشعري ذرة من أرواحنا، ومن تجاربنا والآمنا، وجراحنا الدفينة، مما قربنا من الصور الشعرية النابضة بالأحاسيس، وتأوهات الذات ، وساعدنا على أن نعتبرها منافذ ينجلي منها الألم، ونلامس ذلك في قوله:
ماجفت عيوني من دموع
عن الأحضان قد غاب العناق 
كواني البعد يا أمي احتراقا
وأدماني من الهجر اختناق
 
إن شخصية الفنان عند الجوابرة تحوي في داخلها القدرة على المعرفة المجازية للحياة، و التعبير عن علاقته بالعالم، وقدرته على التجسيد الفني للمحتوى الروحي للمعاني بلغة فنية قيمية عاطفية ملموسة ، عبرت عن تجربة الشاعر الحياتية وتأملاته الإبداعية التي تدل على سعة الموهبة بالذات من خلال ما سكبه في هذه الأبيات ذات الفضاء التصوري الذي ابتدعه ليعبر عن شعرية الألم في خطابه النثري بغياب الأم بلغة وجدانية وضعتنا في حدود الوجع :
زوايا البيت قد اضحت ظلاما
حبال الليل في عنق وثاق
آسى الذكرى تصول بلا انعتاق 
على حجر النوى قلبي يساق 
إلى اي مدى ياعمر تمضي 
رؤى الظلماء في حدق نطاق
 
إن المنهج التعبيري العميق يشكل حلقة موصلة بين تأملات الشاعر الحياتية وموهبته( معتقداته الجمالية)، وهذا ما عايشناه في الصور الشعرية الفنية، والقيمية، والإشارية( الدلالية)، واللغوية في خطاب الجوابرة الشعري عندما ارتحل بنا إلى عوالم الوجع ومشاهده الحزينة بفقدان الأم ( محور البيت ووتدها الشامخ) فنراه يعبر تلقائيا عما خالجه من أحاسيس جياشة تجاه امه بصور شعرية موحية أغنت القصيدة النثرية مما جعل المتلقي يشاركه التجربة، ويعانق رؤاه التي عبرت عن أسمى علاقة وجودية( الأمومة) بصرخات من نوع آخر تجلت فيها معاني الغربة ، والألم الذي اكتنزته الرموز والإشارات الشعرية بخلاصة دلالية جاء فيها:
تجرعت المراراة في كؤوس 
وإن الحزن في جوفي مذاق
تراءى الصبح من وجعي عبوسا
توارى النجم والوصل افتراق
ربيع الدهر قد امضى خريفا
وغيم الصيف من حولي خناق
على الصور القديمة رف طرفي
ونوح القلب في العمق احتراق
 
عند الجوابرة نلتقي بمحيط واسع من الإمكانيات التجسيدية الفنية والقيمية والتعبيرية التي انطلقت من خصوصية نصه الشعري وبناءه الجمالي الذي مرره لنا من خلال الصور التعبيرية الرافضة لغربة روحه واستلابها برحيل والداته بمعاناة صارخة عبر عنها من خلال التجليات الموجعة التي حملها من معنى إلى معنى بغياب الأمان ( الأم) الذي شكل رحيلها للشاعر تعب روحي وفكري، وعاطفي تجسد في غربة روحه الباحثة عنها في مرارات وعتمة الغياب الذي عبر عنه في مكابداته حينما قال:
رفقا يازمان الوصل حزنا
على الوجنات دمعات تراق
من الماضي دعاء الأم اضحى 
فيقتلني من الهم اشتياق
 
إن الشاعر يحيى الجوابرة استطاع من خلال نصه الشعري السابق من التعبير عن قدراته الإبداعية الفنية، ومنظوره الفلسفي للحياة الذي سعى من خلاله إلى إذابة جليد الحزن في مقام الوجيعة والفقد منطلقا من مقاطع شعرية عميقة المعاني اطلقت الدلالات الوصفية إلى آفاق إبداعية رحبة. 
مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *