البصمة

عندما أتأمل في حالنا وأحوالنا أتعجب كثيراً ، فكلنا نجتهد في تحصيل العلم ومن ثم نبحث عن وظيفة مرموقة ونحرص أن تكون هذه الوظيفة ذات رواتب عالية ، وإذا وفقنا في ذلك نحرص كذلك على أن تكون الأيام الأولى من الدوام غاية في الإتقان والمواظبة والحضور المبكر والجد والاجتهاد ، ولكن ما أن تمر علينا بضعة أشهر حتى تأخذ أحوالنا في القهقرى رويداً رويداً ، ويبدأ الإهمال والتأخر عن الدوام ، ثم ما نلبث أن نكثر الغياب ونقدم الأعذار تلو الأعذار ومعظمها واهية أو غير صادقة …

فتضطر الإدارات أن تضع لنا نظام البصمة لكي تضبط الحضور والانصراف ، وهنا تجدنا نجتهد في الحضور مرة أخرى ، لا لشيء سوى أن لا نتأخر عن الدوام فنقع تحت طائلة الخصم من الراتب ونبدأ بالتذمر والضيق …

أتساءل .. لماذا نجعل البصمة هي الرقيب علينا ؟! .. أليس الله أولى أن نجعله رقيباً على أفعالنا ؟!

أليس من العدل أن ناخذ رواتبنا على قدر أعمالنا ؟ … ثم لماذا نغضب عند الخصم من رواتبنا ونتهم إداراتنا بالظلم ؟! … وفي الحقيقة فإن الظلم قد وقع منا نحن لأنفسنا ..

ما أكثر الحوادث التي تقع بالتحديد كل صباح أثناء الذهاب للدوام ، بسبب أننا لا نريد تفويت وقت البصمة ، فنقع تحت طائلة العقوبات والخصم من أجورنا …   

هذه العقوبات أليس جزاء وفاقاً على ما نقوم به ؟! .. فهذه الأفعال هي التي تتسبب في تعطيل وتأخير معاملات الكثير من الناس ، وهي السبب الأكبر في اختراع عبارة (راجعنا بكرة ) وتلي (بكرة) أعداد لا تحصى من الأيام ، ومن ثم ضياع أو تعطيل مصالح العباد ، ونحن مسؤولين عنها أمام الله وهو الأهم …



والأشد من ذلك أن نرى البعض يقوم بالتحايل على هذا النظام ، فيأتي ويضع بصمته ثم يستأذن في الخروج من عمله أو إدارته ويظن بذلك أنه (فهلوي وذكي) كما يقال ، ثم نشتكي بعد ذلك من قلة أو عدم البركة في أموالنا وحياتنا …

أعلم أن البعض سوف يغضب من هذا الحديث ، ولكن لا مناص من قول الحقيقة ولو على النفس .. أليس هذا القول حق أم أنني افتريت فيه ؟! .. فليراجع كل منا نفسه وليضع نصب عينيه أن الله سائله عن هذه الأمانة …

شيء آخر مما تتألم له النفس ، عندما أسمع البعض إذا ضرب موعداً يسأله الطرف الآخر بقوله (موعد خواجة) ، فيجيب نعم موعد ووعد خواجة ، فياللأسف أصبحنا نفتخر بموعد الخواجة ، لأنهم والحق يقال يلتزمون بموعدهم ووعدهم وكان الأولى والأجدر بنا نحن من يلتزم بهذا ، لأن ديننا الحق لو فهمناه جيداً هو دين النظام والمواظبة وحفظ العهود والمواثيق والصدق ورعاية وحفظ حقوق الآخرين …

وهناك من الأعمال والوظائف ما تستوجب القسم عليها ، ثم بعد ذلك ترى الإهمال والفتور بل التلاعب إن لم يتعدى ذلك كله إلى حد أخذ الرشا على أعمال هي من صميم واجباتنا …

وكم وكم تحت الثرى ممن مات بالقسم ومن مات بخلف الوعد ونكث العهد ..

أليس نحن الأولى أن نكون أشد حرصاً على القيام بأعمالنا لنأكل مما هو حلالاً طيباً ؟! …

لما لا نستحضر مراقبة الله سبحانه وتعالى وعظمته في نفوسنا ، وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لما نخشى البصمة أكثر من خشيتنا لله ؟! …

وبعد هذا كله بل قبل ذلك كله القول الفصل الذي لا مرية فيه ولا شك ، وفق القاعدة الإسلامية “من أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل” …

اللهم نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً .


إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *