لا يكاد يمر يوماً في حياتك العامة إلا أن تختلط اجتماعياً بالناس و تحاورهم في مشكلاتهم وهمومهم ، أو أن تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي بدون أن تشهد مشكلة التعدي والسب والاحتقان والارهاب الفكري ، هذا في حال سلمت أنت
من ذلك .
يعرف الكثير أن جميع المجتمعات تتكون من مستوى أفقي يتضمن مجموعة تصنيفات ، وهي :
1- الطرف الموجود في أقصى اليمين يسمى تيار اليمين المتطرف ويطلق عليهم أيضاً التيار الراديكالي المتطرف Radicals ، وهم الأصوليين المتشددين من أتباع الدين المتطرفين أو الموروث الثقافي الاجتماعي الغير قابل للتغيير و التجديد وضمنه منظومة العادات والتقاليد والقيم الأسرية والاجتماعية.
2- في الطرف الاخر على أقصى اليسار يأتي تيار اليسار المتطرف الذي يسمى أيضاً التيار الليبرالي المتطرف Liberals ، وهو يمثل الفكر المتحرر وحركات التغيير الثقافي المنسلخة من القيم والهوية الثقافية الاجتماعية و الدينية و الرافضة لقيودها.
3- وسط اليمين وهم الأشخاص المعتدلين بعض الأحيان ولكنهم يميلون في كثير من المواقف إلى التعصب للتيار الراديكالي المتطرف ويتعاطفون معه غالباً ، ويعتبرهم المحللين الاجتماعيين متطرفين أيضاً.
4- وسط اليسار وهم الأشخاص المعتدلين غالباً الذين يميلون في كثير من المواقف الى التعصب للتيار الليبرالي المتطرف ويتعاطفون معه غالباً ، ويعتبرهم المحللين الاجتماعيين متطرفين أيضاً .
5- تيار الوسط وهم الأشخاص اللذين يرفضون تطرف الراديكاليين والليبراليين ولديهم نظام قائم صالح يتفق عليه الجميع بدون تطرف ، ويقاس اعتدال المجتمعات بنسبة وجود تيار الوسط فيها ، و تعتبر كثير من المجتمعات العربية من المجتمعات المتطرفة للتيارين (هناك نسبة طيبة من المجتمعات المعتدلة عربياً ، كما أن هناك نسبة كبيرة من المجتمعات الغربية المتطرفة) ، وذلك يعود إلى أن نسبة الوسط المعتدلين أقل نسبة في هذه المجتمعات.
جدير بالذكر أن هذه ليست “سباباً” أطلقه ، بل هي أسماء و وصف علمي للأطراف المختلفة.
وللتوضيح أيضاً …
لو كنت تعتقد عزيزي القارئ أن أطراف التطرف الليبرالين والراديكالين هم ملائكة وشياطين وأن الصراع بينهم صراع جبهة تمثل الخير وأخرى هي منتهى الشر ، أرجوك تابع القراءة لأني أعتبر حكمك “متطرفاً”.
لا يخلو أياً من التيارين من جوانب قوة وضعف وكلاهما لديه مسلمات يتفق عليها الجميع بيد أن نقطة الخلاف هي أن كلا الطرفين يرفض الحوار والتفاهم والتنازل للطرف الاخر ولو كانت مواقفهم صحيحة بسبب التعصب ، ومن الجيد أيضاً أن تعرف بأن كل منهم يدعي بأنه “معتدل” ويتهم الاخرين بأنهم “متطرفين” …
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى ** وليلي لا تقر لهم بذاكا …
ما يحدث حالياً في تناولنا الاجتماعي من اتهام للنيات و تعدي على الأعراض والايذاء النفسي والفكري ،ينبُع في تصوري الشخصي من ثلاثة أسباب رئيسية:
1- السبب الأول :
التعصب : حيث قيل قديماً : “آفة الحكمة التعصب” ..
ومكمن مشكلة التعصب أن كثير من الناس ليس لديهم رأي في القضايا المجتمعية ولا علم شرعي فهم مرتبطين بأقوال بعض البشر ويمجدونها (تعصباً لهم) بشكل يتعدى أحياناً حدود الدين والعقل ويخالف ما جاء به قدوتنا عليه الصلاة والسلام وهم يشكلون أطراف الحرب الاجتماعية والاعلامية القائمة ، ويشملهم بالطبع قادة وجمهور التطرف في جانب الليبراليين والراديكاليين ، و (جمع غفير من تيار وسط اليسار واليمين) بحد سواء .
“التعصب بالحب يفقدك قدرة رؤية الخطأ عند الآخر ، في حين يجعلك الكره غير قادر على أن ترى الخير في أعدائك”..
هناك مثل حجازي جميل يقول : “اللي يحبك ياكلك الزلط واللي يكرهك يعدّ لك الغلط” .. (الزلط : الحجارة).
يحرك معظم الناس من المذكورين آنفاً مجموعة من القدوات المتطرفة الليبرالية أو الراديكالية ، وبما أن هذه القدوات متشددة ومتشنجة فمعظم أتباعهم متشنجين متشددين علاوة على كون السواد الأعظم منهم جهلة ورعاع يحركون بدون فهم ولا عقل ولا منطق .
فاللذين يسبون ويلعنون الاخرين باسم الدين أو الحرية لا يفقهون فيهما شيئاً ، لأن مثل هذه الافعال متناقضة مع مبادئ الدين والحرية نفسهما ، كما لا يقتل الاخرين قادة التطرف ، ولكن يفعله أتباعهم تعصباً وولاء لهم ولقضيتهم ، على أن سكوت القدوات عن رفض العنف فكراً وسلوكاً ، يعدُّ إقراراً لهذا الفعل وموافقة ويتضمن مشاركة في الجريمة إلى حد ما إذا كانت ثقافتي القانونية جيدة .
ماهو إذاً حل مشكلة التعصب ؟ ..
التعلم والتفقه والاستزادة والقراءة والتفكر والسياحة في الأرض والانفتاح على الآخر وسماع رأيه بتجرد وموضوعية والوقوف في حذاءه ورؤية العالم بعينيه والتنوير المجتمعي في كل مجالاتنا الفردية والأسرية ، سيجعل لدينا رأي قائم على أدلة شرعية وفهم عميق ودراسة واقعية وليس مجرد آراء وتحليلات بشر يصيبون ويخطئون.
نقل عن الإمام مالك رحمه الله قوله: “كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد ، إلا صاحب هذا القبر” وهو يقصد رسولنا المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه …
وقد قال أهل العلم: “كلما زاد علم المرء، قل إنكاره”..
أجزم يقيناً على أن العلم الحقيقي يدعو للتسامح ويجعل الانسان قادراً على رؤية الخير في الناس وتفهم جوانب قصورهم ونقصهم كبشر ، ويدرك بأن طريق إصلاحهم الحقيقي يكمُن في طريقة اتصال محببة للنفس تستدعي الخير فيها وتعينها على تقبله واعتناقه.
إن عجبي لا ينتهي ممن يعتقد أن الجهاد في قتل المخالف ويوقن بأنه طريق دخول الجنة ؟!
وسؤالي لهم : هل جربت يوماً أن تدعو الناس لاعتناق أفكارك بحسن الخُلق والقدوة وأفضل طرق الاقناع وأرقاها ؟
لم تفتح مدينة من المدن أمام المد الاسلامي العظيم إلا وقد خُيّر أهلها بين ثلاثة : أولها الاسلام بكامل الحقوق التي يحصل عليها كل مسلم ، وآخرها الحرب مع كل الحقوق التي يحصل عليها المهزوم .
الصبر والمجاهدة وإقناع الناس وتنويرهم وتمثيل القدوة التي يحبون يوماً أن يكونوها هم أنفسهم مجردة في نفسك ، هي الجهاد الحقيقي في الاصلاح الاجتماعي كما أراه شخصياً وأعتقده يقيناً ، وعلى صعوبته وتعقيده وطول فترته يكون الأجر والجهاد وتحمل المشقة..
قال المتنبي رحمه الله :
لولا المشقة ساد الناس كلهمُ ** الجودُ يفقر والإقدامُ قتالُ..
ولعلي أن أجدد من هذا المنبر دعوتي لأن نُسمع نحن المعتدلين صوتنا للناس وأن نصل إليهم من خلال الإعلام وأن نصرخ أعلى من المتطرفين من الطرفين (الليبرالي والراديكالي) بأن كفّوا وتوقفوا عن نشر الفتنة في مجتمعنا الآمن ، فقد عاش عليه الصلاة والسلام في مدينة واحدة مع اليهود و النصارى والمشركين والمنافقين وكان خير من شهدوا له جميعاً بالاعتدال و العدل و الانصاف .
تركنا منابر العلم والاعلام للكثير من المتطرفين وضاع صوتنا الضعيف وسط صراخهم ونزاعاتهم الممتدة دهوراً ، وحروبهم التي أُستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة اللا أخلاقية والغير إنسانية ، وقد تعلمنا اليوم من تجارب بعيدة وقريبة أن مواقفنا السلبية تجاه تطرفهم قد تؤدي لا سمح الله لهدم كل البيت الذي نعيش فيه جميعاً أو غرق المركب الذي يُقلّنا مع بعضنا.
وللتاريخ أن يسجل موقف القيادة السعودية الذي يعبر عن الاعتدال الذي أقصده .. فطريقة التعامل مع المتطرف الذي سعى حرباً وحمل السلاح أن يعاقب ويحارب حتى يذعن أو يصبح عبرة لغيره ..
وما تفعله قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان – وفقه الله – في تمثيلها للفكر المعتدل ومحاربتها للتطرف بكل أنواعه في حربها ضد داعش والقاعدة المحسوبتان على السنة وإيران والحوثيين وحزب الله المحسوبين على الشيعة في وقت واحد و حرب واحدة جنباً الى جنب مع حوارها الفكري الداخلي والخارجي لمحاربة كل أشكال التطرف وتوسيع قاعدة الاعتدال المجتمعي والأممي ، يعبر عن هذا الاعتدال الذي أوقن بأن واجب كل منا يستدعي أن نقف صفاً واحداً ضد كل من يهدد أمن وسلامة مجتمعنا واستقراره بالحرب ضد التطرف والارهاب بأي شكل كان ومن أي طرف جاء .
2- السبب الثاني :
التصنيف : حيث أن تصنيف الاخرين أصبح من أسهل الأشياء لدى بعض فئات المجتمع ، فهذا ليبرالي وهذا أصولي وهذا إرهابي وحضري وبدوي وصوفي وسني وشيعي ، وهلم جرا .
مشكلة التصنيف أنه يسمح للشخص ببساطة (وغالباً بدون أي دليل) ولمجرد الاختلاف حول قضية فرعية بسيطة وكانعكاس للتعصب والتطرف المذكور سابقاً، أن يقلل من أهمية الطرف الآخر ويستبيح كل حرماته (كمسلم أو كانسان)، بما يوصله حتى لحد القتل واستباحة الأعراض ويبدأ من اتهام النيات و الحكم على الناس من خلال قولبتهم.
ماهو إذا حل مشكلة التصنيف ؟ ..
ينبغي لنا لكي نعالج مشكلة التصنيف الحذر من فعله بوعي لكي لا نقترفه بدون وعي ، وتربية أبناءنا على الابتعاد عنه ، وتوعية المجتمع بأخطاره ، لأنه مبدأ الظلم ومبرر الاعتداء والقتل ومَركنُ النفس إلى أن الاجرام بحق المختلفين عنا صحيح ومبرر .
“كيف تعتقدون أن رجلاً من تنظيم داعش الارهابي يقتل آخر ويعتدي على أهله ويقتل أطفاله (وهو مسلم) في الحرب الدائرة الان في سوريا والعراق – أجارنا الله واياكم منها وسلم أخوتنا المسلمين وعافاهم – ، ثم يعود ليأكل بين زوجته وأبناءه وينام طوال الليل قرير العين لا يشعر بوخز الضمير ولا هول جريمة قتل نفس مسلمة؟!” …
كل هذا يبدأ بالتصنيف ..ياعاقل فاتعظ …
اضبط نفسك وهي تمارسه عندما تقول لك بأن هذا الأبيض طبعه كذا و هذا الأسود مشهور عنه كذا ، وهذا الحضري قالوا عنه ذلك ، وهذا البدوي عرف عنه كذا ، ثم اجلس معها في هدوء و أخبرها بأن هذا غير صحيح … قل لها بأن التعميم خطأ وجور وظلم ، واسألها لو كانت تقبل أن يعمم عليها خطأ أحد أبناء قبيلتك أو سوء طبع أحد أفراد أسرتك ، وستجدها بعون الله تتوقف تدريجياً عن التصنيف وتعميم الأحكام على الناس ، لأن نفوس الأسوياء ترفضه وتعرف أن كل البشر سواسية أبناء رجل واحد وامرأة واحدة يتملكهم صراع الخير والشر طوال حياتهم ضمن امتحان الله لنا جميعاً ((ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)) المُلك الآية ٢.
3- السبب الثالث :
الوصاية : كل من ذهب من أبناءنا لتنظيم داعش أو انضم للقاعدة – أصلحهم الله وأعادهم للحق والصواب – تربى في فكر الوصاية .. الأوصياء ليسوا مجرد ناصحين مخلصين ..
الأوصياء بشر تلبسوا رداء العلو والتكبر حتى أوصل بعضهم في أفعاله للألوهية في الحكم على الناس ، شقي وسعيد وكافر ومسلم ويستحق القتل أو الحياة ويدخل الجنة أو النار.
دور الوصي ليس أن يناقشك فكرياً أو أن ينصحك شرعياً ، بل أن يوقفك ويضربك ويعتدي عليك لكي ترتدع وتتوقف أو ربما يقتلك لكي تكون عبرة للعالمين.
ولما ضيقت على بعض الشباب هذه الفرص في المجتمع بسبب تنامي الوعي وقوانين المجتمع المدني ، بحث بعضهم عن مكان يفرض فيه وصايته على اخرين ، وأين يمكن أن يتحقق حلم وصي مثل هذا خيراً من داعش الارهابية ؟
ومن المخجل أن بعضهم يتحجج بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: “عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم” ..
فهؤلاء جاهلون بأساسيات التسلسل الاداري والسلطة التنفيذية لدى الحاكم والقاضي والحقوق المدنية لكل إنسان مسلم وغير مسلم ، علاوة على أن حكمه على المنكر متطرف غالباً في مسائل مختلف عليها ، والمصيبة عندما تكون فرعية وبسيطة .
ماهو إذاً حل مشكلة الوصاية ؟ …
لا يوجد في رأيي مثل الايمان بالتسامح في إلغاء حالة الوصاية والتصالح مع الاخرين وفهم دوافعهم وتفهم مواقفهم ، جنباً إلى جنب مع التفقه في الدين ودراسة آراء المخالفين والعودة لمنهج قدوتنا عليه الصلاة والسلام في الاختلاف.
أمرّ الله سبحانه وتعالى الرسول عليه الصلاة بأن يدعو بالتي هي أحسن إذ قال سبحانه: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)) [سورة النحل : 125: 128] …
وقد أثبتت كل مواقفه عليه الصلاة والسلام أنه لم يختر يوماً بإرادته خياراً بالعقوبة وهو يستطيع العفو ، أو بالشدة وهو يستطيع علاجها باللين .
رجوعنا لمنهجه واقتداءنا بسنته ونبذنا للتعصب والتصنيف والوصاية خصوصاً عندما تصطدم بمنهجه وسنته عليه الصلاة والسلام ، طريقنا نحو النجاة في الدارين والسلامة من أعراض المسلمين ودمائهم ، وأن نجترح في مجتمعنا سوءاً أو أن نجره على مسلم.
أقول ما قرأتم و أستغفر الله لي ولكم و يافوز المستغفرين ….
عمر بن عثمان الاندجاني