قراءة في القصيدة اليتيمة

عندما تأملت قصيدة علي بن زريق البغدادي اليتيمة أو قمر في بغداد حقيقة توقفت عندها أتسائل هل فعلاً الحزن وفقدان الأمل يقتلان المرء والحق أنني مررت بشخص قد قتله الحزن وما كنت أظن أن الحزن يقتل المرء لولا أنني قد عايشت ذلك بنفسي ورأيت شخصاً قريباً مني قد مات من شدة الحزن نعم ذلك الشخص هي أختي أم ياسر تلك المرأة التي فقدت ثلاث من أبنائها في ريعان شبابهم الواحد تلو الآخر وهي تنظر اليهم وتثكلهم جميعاً ومع موت الثالث انهارت تماماً ولم تمضي من الشهور الا احد عشر حتى لحقت بآخرهم حزناً وفي الحقيقة هي كانت تحزن ولكن لم أراها يوما متسخطة بل كانت تلهج دائما بالحمد ولكن الحزن قد فطر قلبها رحمها الله رحمة واسعة وأبنائنا وأموات المسلمين هذه المقدمة كانت ضرورية للولوج إلى قصة ابن زريق البغدادي وقصيدته العينية الحزينة اليتيمة لنبحر رويداً رويداً الى أعماق هذه القصة والقصيدة ودعوني انقل من بعض كتب التاريخ مع بعض تصرف (هو أبو الحسن علي بن زريق البغدادي (ت420هـ)، كانت له ابنة عم أحبها حبًا عميقاً صادقاً ، ولكن أصابته الفاقة وضيق العيش، فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس طلباً للغنى، وذلك بمدح أمرائها وعظمائها، ولكن صاحبته تشبثتْ به، ودعته إلى البقاء حباً له، وخوفًا عليه من الأخطار، فلم ينصت لها، ونفَّذ ما عَزم عليه.

وقصد الأمير أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس، ومدحه بقصيدةٍ بليغة جدًا، فأعطاه عطاءً قليلاً، فقال ابن زريق- والحزن يحرقه-: “إنا لله وإنا إليه راجعون، سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل، فأعطاني هذا العطاء القليل؟”.

ثم تذكَّر ما اقترفه في حق بنت عمه من تركها، وما تحمَّله من مشاقٍ ومتاعب، مع لزوم الفقر، وضيقِ ذات اليد، فاعتلَّ غمًّا ومات.

وقال بعض مَن كتب عنه إنَّ عبد الرحمن الأندلسي أراد أن يختبره بهذا العطاء القليل ليعرف هل هو من المتعففين أم الطامعين الجشعين، فلما تبيَّنت له الأولى سأل عنه ليجزل له العطاء، فتفقدوه في الخان الذي نزل به، فوجدوه ميتًا، وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه العينية.

فبكاه عبد الرحمن الأندلسي بكاءً حاراً.) انتهى النقل…

اقول غفر الله للأمير أبا الخير عبدالرحمن الأندلسي ما كان اغناه ان يختبر او يجرب علي ابن زريق لقد احب هذا الشخص ابنة عمه حباً خالط شغاف قلبه واراد لها العيش الرغيد ولكن كما يقال..

ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن

يبدأ قصيدته بطلب من ابنة عمه أن لا تعذله ولا تتجاوز في لومه حد الاضرار به وهي تعتقد أن ذلك اللوم ينفعه فيقول في مطلع قصيدته العينية والتي تعتبر حقيقة من عيون الشعر العربي بلا مبالغة..

لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ

********

جاوَزتِ فِي لومه حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللوم يَنفَعُهُ

********

فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ

هنا هو يستعطف محبوبته ان تستعمل معه الرفق فهو مضنى القلب مُتْعَبَه وموجعه ثم يقول

قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُلِّعَتْ بِخُطُوبِ الدهرِ أَضلُعُهُ

********

يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُ

********

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ

يقول لم يرجع من سفر في طلب الرزق حتى يزعجه سفر آخر يتطلع اليه عله يجد في هذه المرة مبتغاه فيرتاح ولكن هيهات فيقول…

كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ

يالهذا المسكين يقول لكثرة حله وترحاله كأنما هو موكل بذرع وقياس هذه الأرض الفضاء كأنه يقيسها ويذرعها طولاً وعرضاً ثم يستطرد قائلاً :

إِنَّ الزَمانَ أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً
وَلَو إِلى السَدّ أَضحى وَهُوَ يُزمَعُهُ

لو علم أن السفر إلى السند يجلب له الغنى لشد الرحال إلى تلك البلاد النائية ثم يقول…

تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه
للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ

********

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ واصِلَةً
رزقَاً وَلا دَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

********

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ
لم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

********

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

********

وَالحِرصُ في الرِزقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

********

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه
إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن حَيثِ يُطمِعُهُ

هو في هذه الابيات وكأن الندم يعتصره أن الرزق سوف ياتيك وكما يقال لو لم تعرف طريقاً إلى الرزق فالرزق يعرف الطريق اليك ومهما يجاهد الإنسان في طلب الرزق فلن ينال إلى ما قسم الله له ولكن طمع الإنسان وحرصه قد يكلفه ما لا يطيق وأن شدة الحرص على الرزق مع ما قسم الله للإنسان ربما يوصل الإنسان الى البغي وعدم الرضى مع أن الله قد وزع الأرزاق ولم يخلق الله خلقاً يضيعه أو يتركه هكذا سبحانه وتعالى فهو يرزق كل حي ويسوق اليه رزقه ولكن الانسان بطبعه عجول..

وهنا يتذكر وداع ابنة عمه وكيف كان الوداع بأبيات غاية في الروعة والتأثر هي أبيات تصويرية وكما يقول الدكتور عبدالعزيز سرحان ان هذه الأبيات تصلح لأن تجسد في فلم تصويري….

أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ

********

وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ

********

وكم تشفَّع فى أن لا أفارقه
وللضرورة حالٌ لا تُشَفِّعُه

********

وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ

يقول استودع الله في بغداد لي قمرا وصف ابنة عمه بالقمر لجمالها وهي تسكن الكرخ من اعمال بغداد وفلك الازرار ما فتح من القميص أو الثوب وكناية عن القلب الذي لم يتحمل فراق الإلف ثم يقول حين ودعته عند الرحيل تمنيت أن يودعني ما صغى من العيش وأني لا أقف موقف الوداع هذا لشدة الألم الذي عانيته حين وداعه وهي تقف كأنها القمر لجمالها ورونقها والمرأة يزيدها الدموع جمالاً وبالذات اذا كانت دموع استعطاف ان لا يغادرها من تحب يقول كم قد تشفعت وساقت الي الشفعاء والشفيع هنا دموعها وتوسلها ان لا افارقها ولكن ابت ضرورة حال كسب الرزق إلا الرحيل ولم تنفع اية شفاعة ثم يتطور الموقف ويزداد دراما اذ لم تنفع الدموع ولم تشفع هنا كان التشيث والرجاء والدموع بربك لا ترحل ولكن قضاء الله ليس منه مفر ولولا أن منيته نادته هناك في الأندلس لكان هذا الموقف كافيا وكفيل بأن يثنيه عن الرحيل ولكن كما قيل (اذا حل القضاء ضاق الفضاء) وكان الرحيل في وقت الضحى ثم يسترسل فيقول لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق عني بفرقته لكنني أحاول جهدي أن اتحلى بالصبر وأحاول أن ارق ما انخرق منه ثم ينهال عليه الندم ويتكاثر حتى كاد ان يهدم كيانه ويعتصره الندم ولكن هيهات فقد سبق السيف العذل يقول

إِنّي أَوَسِّعُ عُذري فِي جَنايَتِهِ
بِالبينِ عِنهُ وَجُرمي لا يُوَسِّعُهُ

********

رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ

********

وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ

اني اوسع عذري في جنايته وما اقترفته من ذنب في حقه ولكن جرميرفي حقه كبير وعظيم بحيث لا ينفع معه عذر ثم يقول لقد رزقت ملكا ولكني لم احسن سياسة هذا الملك هو يصف ابنة عمه بأنها ملك قد منحه الله ولكن لم يستطع ان يحافظ عليه ويقول ومن غدا لابسا ثوب النعيم ولكن بلا شكر فحتما ان ان الله سينزع عنه هذا النعيم وهذه النعمة التي أولاه الله اياه….

والقصيدة لها تكملة ولكن اردت ان اقف عند هذه الابيات عند لحظة الوداع والقصيدة ليست قصيدة عشق بقدر ما فيها من العبر بقدر ما فيها من الوفاء بقدر ما فيها من الصبر بقدر ما فيها من ألم الفراق رحم الله على بن زريق البغدادي واسكنه فسيح جناته وعوضه الجنة فقد ترك لنا إرثاً وإن كان هذا الإرث قصيدة واحدة ولكن قصيدة لشدة جمالها وتأثر الناس بها فكم من الشعراء قد عارضها فهي بحق يتيمة ولكن اي يتم وقد وجدت من الآباء والمحبين ما يخرجها من اليتم لذلك نقول هي قصيدة قمر في بغداد وكفى.

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *