تراودني منذ فترة طويلة – قبل جائحة كورونا بسنوات عديدة- فكرة نقاش موضوع “عدم ملائمة المناهج المدرسية لطلاب القرن الحادي والعشرين”.
هذا الجيل الذي لم يعد يتقبل الزخم المعرفي للمناهج, فهو ألف المعلومة المثيرة والسريعة التي يشاهدها بمنصات التواصل الاجتماعي، أقول: المناهج الدراسية جلها، ولا أستثني المناهج العلمية، أو مناهج تشكيل الهوية، أو مناهج تأصيل المعارف، أو مناهج تكوين المهارات وصقلها ، مع ما تتضمنه تلك المناهج من كتب دراسية، أو أساليب تعلم وتعليم، أو وسائل تقييم وتقويم.
وأظن أن مشكلة المناهج الأساسية هي المحتوى المكرور في مضمونه ،وإن اختلفت مسمياته ، وتنوعت عناوينه، والمظلة التي ينضوي تحتها، فهو تارة المنهج العربي،وأخرى الأمريكي ،وثالثة البريطاني، وهلم جرا.
وثمة مجموعة من الدلائل ،والمعطيات، والمؤشرات التي تدعم ما ذهبت إليه،ومنها على سببل المثال لل الحصر :
-أولا: غالبيةالطلاب يميلون إلى الحفظ كوسيلة مثالية ومضمونة لحصد التفوق، بعضهم حاول الفهم وتدبر ما وراء المحتوى، وأُحبط إما لعدم وجود فرص تقويمية مناسبة وجيدة، وإما لعدم (تجانس ) طرق التدريس والتقويم أحيانا، وكذا بسبب افتقارنا لاستراتيجيات التعلم الهادفة التي تجذب الطالب إلى التعلم وتتحدى قدراته… وللأسف الشديد تكون النتيجة طلابا يستظهرون، ويجترون.. فهم قد بدوا من ذوي التحصيل المرتفع في حين أن قدرتهم الحقيقية على الإبداع والابتكار تبدو قليلة إن لم تكن منعدمة.
– ثانيا: المنهج المعاصر لا ينتج لنا الطالب المفكر، أو المتفكر، بل هو منهج يحاول تفسير ظواهر علمية دونما مبررات إثبات مقنعة لذلك ، هذا المنهج هو الذي أفقد طلابنا الحس أو التذوق العلمي، والديني، والأدبي، والقيمي.
أضحى طلابنا لا يعون المعنى الحقيقي العملي للكيلوغرام مثلا ، كحصيلة لتقارب أو تجمع لملايين الجزيئات من المادة، وأثره الكامن أو الحركي سواء باعتباره نتاج كثافة منخفضة أو عالية. مثلما يجهل الطالب الأثر الذي يمكن أن يحدثه النيوتن على المستوى الملموس، الميكروسكوبي، أو الماكروسكوبي، فكيف يمكننا تصور أن نجعلهم يسبرون العالم الملياري أو ما يسمى بعالم (النانو) وتقنياته؟!
كيف لنا أن نناقش مع الطلبة فكرة (الجينيوم) وهم لا يعرفون عن الكروموسوم غير تعريفه الحرفي؟!
كيف يمكنهم نقاش الآثار القيمية لتطبيقات الجينيوم التي ربما يعجز عن فقهها جهابذة سبروا عوالم البيولوجي والعقائد معا…
ناهيك عن افتقادهم للقدرة على تتبع طرق التفكير الرياضي والمنطقي، أو إنشاء خوارزميات علمية يفترض أن مرانهم الرياضي حاكى بوابات العقل المنطقية التي أوجدها الخالق لتقبل هذا المنطق!
-ثالثا: ومن زاوية أوسع، تزداد -مع الأسف الشديد- الهوة بين المنهج والطالب على المستوى الجامعي مع مساحة الحرية الهائلة التي يتمتع بها الأستاذ الجامعي فيما يتخير من مقررات ،ويتصرف فيها: إضافة، وحذفا، وتبديلا؛ فيكون الناتج للأسف مجموعة من المعلمين الذين يذهبون للتدريس بالمدارس (كوظيفة) وحينها يتترجم على أرض الواقع المثل العربي المشهور :(فاقد الشيء لا يعطيه).
أقول: إن إعادة النظر في المناهج المدرسية هو الطريق الأول للإصلاح، ولاعادة الاعتبار لإنسان القرن الحادي والعشرين؛ لأن البشرية تتجه للمجهول طالما صار للتقنية اليد الطولى،ونافست العلوم ،بل وفاقتها، وخرجت عن سيطرتها. نعم هنالك حواسيب فائقة لم تعد البرمجيات التي أوجدها البشر تسيطر عليها، وفاقت تقنيات المحاكاة لديها قدرة الانسان معها على الاستنتاج والتأويل ومع الأسف الاستقراء.
وأرى – وأرجو أن أكون مخطئا في رؤيتي تلك- أن جائحة العصر التي لا زلنا نعيش في ظلالها نتاج ذلك النمط من (اللاسيطرة).
أقول مرة أخرى:إن إعادة النظر في تكوين محتوي المنهج وتنفيذه ربما يكون المرافعة الاخيرة قبل النطق بالحكم النهائي على إمكانية إعادة القيمة والقيم، والفعالية، للعلم؛ علنا نظفر بثورة صناعية خامسة راشدة، يتفوق فيها العلم مرة أخرى، ويكبح جماح التقنية التي خرجت عن سيطرته، وإن استمرت تلك السيادة فلربما ستسرع بنهاية الجنس البشري بأسرع مما نتوقع.
أيسر شفيق العمري
[email protected]
مقالات سابقة للكاتب