يوم الجمعة المباركة 1443/7/24هـ أصبحنا وأصبح الملك لله، خرجت إلى المسجد المجاور لصلاة الفجر، وإذا بالرفاق والزملاء الأدباء والمثقفين يتناسلون من شققهم أفراداً وجماعات يلبون النداء في الطريق إلى المسجد وعلى وجوههم البشر والنور والوقار والسرور والسكينة والحبور فرحاً بما آتاهم الله من فضله واستئناساً بما كانوا فيه وما هم مقبلون عليه طوال هذا اليوم من ب ارمج وفعاليات تنتهي بها هذه الرحلة الميمونة!!
في المسجد لقينا الرجل الصالح العم الشيخ محمد بن محمد العيسى الذي تناولنا عنده القهوة في مجلسه العامر ومع أولاده وأحفاده وجماعته بعد مغرب الأربعاء 7/22 (أول أيامنا في ثادق)، ففرح بنا ودعانا إلى طعام الإفطار في داره وبيته قريبة من المسجد وأصر علينا لكننا اعتذرنا فقبل عذرنا جزاه الله خير الجزاء. والتم شمل ثلة من رجالات الأدب والثقافة في شقة الكرم والجود والقهوة والتمور، التي عرف بها زميلنا الدكتور حمد السويلم ورفيقه الأستاذ صالح العوض، والتي تحولت هذا الصباح إلى منتدى صباحي أصبوحة أدبية/ ثقافية أحياها سعادة الأستاذ الدكتور محمد الربيع – شيخ الأدباء وأكبرنا عمراً وتجربة – ليتحدث فيها عن ذكرياته وتجاربه، ونحن له مستمعون، وفي الزيادة راغبون، وأكثرنا إنصاتا ومناقشة وحواراً الدكتور نايف الرشدان والدكتور ناصر الحميدي. ولعل من أبرز ما استفدناه من هذه الأصبوحة المعرفية ما قيل عن الشاعر الأندلسي يحيى بن الحكم (الغزال) الذي عاصر خمسة أمراء من الدولة الأموية في الأندلس وبرع في شعر الغزل، ولجماله ووسامته وظرفه وتأنقه لقب بـ(الغزال)، وله قصيدة غزلية مشهورة في ملكة الدانمارك (تود) في بلاد النورمانديين سنة 232هـ/846م عندما زارها سفيراً لبلاده ومنها:
كلفت في قلبي هوى متعباً …….. غالبت فيه الضيغم الأغلب
إني تعلقت مجوسية …..…… تأبي لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا …………. يلقى إليه ذاهب مذهبا
يا (تود) يا ورد الشباب التي ….. تطلع من أزهارها الكوكبا
ولا أنسى في هذه الأصبوحة الأدبية في شقة الأخوين: حمد السويلم وصالح العوض أن أشير إلى ما أسبغاه علينا من كرم وضيافة صباحاً ومساء في عادةً (قصيمَّية) تعودناها من الأخوين الكريمين في كل لقاءاتنا المماثلة. وقد أضاف صاحب النزل الذي استضافنا الوجيه (عيسى بن عبدالعزيز العيسى) الكثير من معاني الضيافة والحفاوة بالمشاركة في تقديم القهوة والشاي والإفطار الخفيف طوال أيام الإقامة فله مزيد الشكر والثناء وأهديه هذه الأبيات:
إلى (عيسى) أبث اليوم صحوي
حروفاً من جميل القول شعراً
فأنتم قد بنيتم في النوايا
محبة عاشق تنثال فخراً
وقفتَ على الروابي قلت أهلاً
فداري داركم .. سراً وجهرا
حللتم في الفؤاد .. فيالسعدي
بمن جاءوا لنا براً وبحرا
فرشت لنا المطارف والحشايا
وكنت مجاوراً ليلاً وفجرا
لك الأفلاك شاهدةً بأنا
لقينا عندك الإسعاد ذخرا
وللزميلين حمد السويلم وصالح العوض أقول:
صباحات بدونهما سراب
وليل دون سهرتكم عقاب
تعودنا بكم أنساً وجوداً
كما يهمي بوابل السحاب
فدمتم يا رفاق الفضل إنا
قهوتكم وتمرتكم صحاب
وبعد هذه الأصبوحة الأدبية الثقافية، انطلقنا إلى مضمار المشي حيث نمارس رياضتنا اليومية لمدة ساعة أو أكثر لنعود بعدها إلى النزل متأهبين للمغادرة في رحلة أخيرة نحو الجمال والكرم والسعادة في طريقنا إلى العودة إيذاناً بانتهاء هذه الرحلة المباركة.
وكان مبرمجاً لنا جولتين سياحيتين في لقاءين باذخين أولاهما تناول طعام الإفطار في منتجع المنارة لأصحابه آل يحيى الماجد من أهالي ثادق والوقوف على جماليات المنتجع وتراثياته السابحة في التاريخ والجغرافيا وكان في استقبالنا وقت وصولنا المنتجع صاحبه الوجيه الشيخ محمد بن يحيى الماجد ذو الإطلالة البهية والقامة الفتية والروح الإيمانية والسمات اليعربية ذكرتني بقول الشاعر يصف ممدوحه:
تراه إذا ما جئته متهللاً ……….. كأنك معطيه البي أنت سائله
كريم إذا ما جئت للعرف طالباً ….. حياك بما تحنو عليه أنامله
أخذنا في جولة تراثية في منتجعه حيث المتحف الخاص بالتراثيات والملابس القديمة، وحيث مزرعة الخيول والتدريب على ركوبها والسباق عليها، وحيث السانية واستخراج الماء من البئر بالطرق التقليدية، وحيث السيا ارت والحافلات القديمة. ولكن أجمل ما رأيته في هذا المنتجع ذلك الدهليز الأرضي الذي يشبه المتاهة الذي يوصلنا من السطح الأرضي إلى قاع البئر في ظلمة مخيفة وتحتاج إلى قلب جسور وروح مغامرة قام بها جمع من رفاق الرحلة ومنهم (أنا) والعقيد صالح العمري (القانص) والدكتور ظافر العمري وآخرون لم أتذكر أسماءهم فمعذرة للجميع.
كانت جولة صباحية مفيدة، مارس فيها البعض ركوب الخيل والتقاط الصور التذكارية، وسعدنا بمائدة إفطار باذخة دالة على كرم آل يحيى الماجد وحسن ضيافتهم فجزاهم الله خير الجزاء.
وما إن أعلنت الساعة وقت العاشرة صباحاً حتى تنادينا للحافلة لندرك صلاة الجمعة في أحد المساجد الجوامع حيث المحطة الأخيرة في مركز الحصون واللقاء الأخير بآل الحيدري فقد بدأنا بهم في (البير) وننتهي بهم في (الحصون بسدير) وهذه مكرمة يسبغها أخونا الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن الحيدري أحد منظمي هذه الرحلة الميمونة.
وصلنا إلى أحد الجوامع، وهو جامع محطة حفر القش القديم، وتنادى القوم للصلاة فقد أذن المؤذن وتجمع المصلون وحول المسجد توزع البائعون والمتسوقون يعرضون بضائعهم من الإنتاج المحلِّي والمستورد، ولكن الله سبحانه وتعالى يذكرهم “يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون” [سورة الجمعة آية 9]!!
واستجاب القوم فتركوا سوقهم وبضائعهم وهرعوا إلى المسجد فقد بدأ الخطيب في اعتلاء المنبر. وأما نحن رفاق الأدب والثقافة فاختلفنا فقهياً منا من يرى الجمع والقصر بنية صلاة الظهر لأننا مسافرون، ومنا من يرى أن يصلي الجمعة فقط ثم العصر قصراً في وقته إن شاء الله، وهذه سنة الله في خلقه واختلاف المذاهب رحمة!!.
وعلى أية حال صَّلى الجميع والله أعلم بالنيات، أما أنا فقد آمنت بفقه من قال بعدم الجمع في مثل هذه الحالة.. فصليت الجمعة فقط وأجلت العصر إلى أن يحين وقته.. وهذا ما كان!! ثم انطلقنا إلى دار مضيفنا حيث استراحة محمد بن إبراهيم الحيدري وابنه المهندس طارق (رئيس الغرفة التجارية في المجمعة) في مركز الحصون التابع لمحافظة المجمعة وهي قرية تبعد عن المجمعة حوالي (50 كيلومتراً) وكلتاهما (المجمعة والحصون) من إقليم سدير!!
وعند مدخل الاستراحة وجدنا مضيفينا حيث استقبلانا بالترحاب ودارت القهوة والشاي والدخون (البخور) والكلمات الترحيبية حيث تحدث السفير أحمد اليحيى بكلمة ضافية وأهدانا بعض كتبه: أحوال جزيرة العرب قبل النفط، ط 1441هـ ومواقف ومشاهد في حياتي ط 1443هـ، وهما كتابان ماتعان تصفحتهما سريعاً وأعجبني موضوعات، وأسلوب كتابتهما ولعلي أرجع إليهما قارئاً ومستفيداً. كما تحدث مضيفينا المهندس طارق ووالده الشيخ محمد الحيدري، وكذلك الدكتور راشد العبدالكريم، والدكتور صالح النصار، ومن قبل الأدباء والمثقفين شارك كل من الدكتور محمد الربيع والدكتور حمد الدخيل والدكتور عبدالله عويقل السلمي وشاركتُ بإلقاء قصيدة بعنوان (الحب يا سادتي) … ومنها هذه الأبيات:
الحب يا سادتي أسمى الشعارات
فلعل كالضوء في أعلى المنارات
هو التسامي عن البغضاء في أدب
هو التلاقي علي صفحٍ ومرضاة
هو السبيل إلى العلياء مرتكزاً
على هدى من أحاديث وآيات
….. إلخ القصيدة.
هنا يقف حديث العقول لنبدأ حديث البطون حيث رحب بنا المضيفون إلى مائدة عامرة فيها ما لذ وطاب من خي ارت محلية ومجلوبة مستوردة. وبعد الغداء وشرب القهوة والشاي حان وقت الوداع.. وداع المضيفين من آل الحيدري في مركز الحصون، ووداع الزملاء رفاق الرحلة فقد كانت هذه المحطة الأخيرة في جولتنا الثقافية/ أدبية عبر ملتقى (وادي عبيثران) الذي نظمه وهيأ له وخطط لكل برامجه وفعالياته كل من الأستاذ الدكتور عبدالله الحيدري والشاعر عبدالله الدريهم حفظهما الله.
ودعنا الرفاق وامتطينا راحلة الزميل الدكتور عبدالعزيز الحيدري الذي رافقناه من الرياض إلى ثادق والآن نرافقه من الحصون إلى الرياض وتحديداً إلى المطار حيث تنتظرنا طائرتان إحداهما ستتجه إلى المدينة المنورة وتحمل زميلنا الدكتور سعد الرفاعي والشيخ الأستاذ أحمد النزاوي، والأخرى ستتجه إلى جدة وبمعيتها (أنا) كاتب هذه السطور!!
كان الطريق ما بين الحصون في محافظة المجمعة ومطار الرياض طريقاً مزدوجاً مريحاً، وقائدنا ودليلنا يعرفنا بكل محطة نمر بها أو قرية نشاهدها، على ميامن الطريق ومياسره فالوقت لا ازل نها ار والشمس لما تغرب بعد. وقطعنا الطريق بالشعر والمثاقفة، وأخبار الأدب والرحلات، فدليلنا وقائدنا مختص في أدب الرحلة وله كتاب منشور (أشرت إليه في أول حديثنا عن هذه الرحلة..) وحديثه لاُيَمل، وروحه المعرفية تواقة للجديد والمفيد، وكان رفيقاي شعلتين مضيئتين بالوعي الفكري، والطرائف الثقافية، والمقولات التربوية والملح الأدبية رغم أن (سعدنا الرفاعي) كان يغط في نوم متقطع كالذئب الذي (ينام بإحدى مقلتيه ويتقي/ بأخرى المنون، فهو يقظان نائم) لكنه كان يصحو فيشاركنا بوجهة نظر أو أري صائب!! وبذلك كله أُنسيَنا طول الطريق ومدة الرحلة حتى وصلنا مطار الرياض سالمين غانمين والحمد لله.. وودعنا دليلنا وقائدنا شاكرين ومقدرين ومعتذرين عن الإزعاج والتكليف!! وودعت زميلي معتذراً عن أي تقصير أو خطأ غير مقصود!!