على أعتاب يوم الرحمات “يوم عرفة”

الحمدُ للهِ ذِي الجلالِ والإكرام، رَبِّ السَّعةِ والفضلِ والإنعام، الذي فضَّل يوم عرفةَ على سائر الأيام، وجعلهُ موسمًا لعتق الرقابِ ومغفرةِ للذنوبِ والآثام، والصلاة والسلام على عبدِهِ ورسولهِ أفضلُ من صلَّى وصام، وأَتْقَى من وقفَ بعرفةَ وطافَ بالبيتِ الحَرام.

أمابعد………

بالأمس القريب – أيها الأحبة – كُنّا نتلقى التهاني بقدوم هذه الأيام التي هي خير أيام الدنيا، ونسأل الله وندعوه أن يبلغنا إيَّاها، ويعيننا على اغتنام أيامها المباركة، وساعاتها الفاضلة، والإجتهاد فيها بالأعمال الصالحة، واليوم نودعها بكل أسىً وحزن، فما أسرع مرور الأَيَام وانْصرامها وتفرقها بعد اجتماعها وازدحامها.

والسعيد من بادر زمانه، وطوَّع أوانه وحفظ أوقاته، واجتهد في هذه الأيام، مُودِعًا فيها أعمالًا صالحات تُقربه إلى رَبِّ البريات، من صلاة، وقيام، وصيام، وصدقة، وذكر، وتلاوة للقرآن، وبر، وصلة رحم، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وغيرها من الأعمال الصالحة، والمغبون من فرط في هذه الأيام فقضاها في لعبٍ ولهوٍ واغترارٍ وغفلة.

فمن كان محسناً فلْيَحمدِ الله، وليزدد إحساناً، وليسأل الله الثبات والقبول والغفران، ومن كان مقصراً فلْيَتب إلى الله، ويقف مع نفسِهِ وقفة محاسبة جادة على ما أورثَ نفسَهُ من الحرمان .

تَمْرُّ بِنَا الْأَيَّامُ سُرْعَى كَأَنّنَا
نَرَى سُرْعَةَ الْأَيَّامِ كَالْبَرْقِ إِنْ بَرَقْ

فَإِنْ كُنْتَ ذَا لُبٍّ حَصِيفٍ وَحِكْمَةٍ
فَلَا تَجْعَلَ الْأَيَّامَ تَمْضِي كَمَا سَبَقْ

وَحُثَّ إِلَى الرَّحْمَنِ سيرًا فَإِنَّنَا
عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا كَحِبْرٍ عَلَى وَرَقْ

وَيَالَيتَ فِي الدُّنْيَا يَكُونُ شِعَارُنَا
إِلَى اللهِ نَمْضِي يَاهَنِيئًا لِمَنْ سَبَقْ

وها نحن اليوم -أيها الأحبة- على أعتاب يوم عظيم من أيام الله، فإن الله – سبحانه وتعالى – فضل العشر الأوائل من ذى الحجة على سائر أيام السنة، وفضل يوم التاسع منها وهو يوم عرفة على سائر أيام العشر من حيث حط الذنوب والخطايا، واسداء المنح والعطايا، ومن حيث كثرة الهبات ووفرة المكفرات، فالله عز وجل يُعطي فيه مالايعطي في غيره، ‏قال عليه الصلاة والسلام: (ما من يومٍ أكثرَ من أن يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبدًا من النارِ، من يومِ عرفةَ، وإنَّهُ ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكةُ، فيقول: ما أراد هؤلاءِ ؟) . [رواه مسلم].

فيوم عرفة من الأيام الفاضلة، يومٌ عظَّم اللهُ أمرَه، ورفع على الأيامِ قدْره، تُجاب فيه الدَّعوات، وتُقال فيه العثرات، وهو يوم مغفرة الذُّنوب، والعتق من النار، والمباهَاة بأهل الموقف، وهو اليوم المشهود، ذو الرفد المرفود، والخير الممدود، وهو يوم إكمال الدِّين وإتمام النِّعمة، وهو يوم عيد لأهل الموقف، وهو اليوم الذي يُرى فيه إبليس صاغرًا حقيرًا، وهو يوم الرحمات والنفحات الإلهية، والعطاء والبذل والسخاء، وهو اليوم الذي يقف فيه الناس على صعيد واحد مجردين من كل آصرة ورابطة، إلارابطة الإيمان والعقيدة، فطوبى لمن رزق حضور سويعاته السعيدة.

وفضل يوم عرفة -أيها الأحبة- ليس خاصًّا بأهل الموقف في عرفة فقط، بل إن فضله يشمل عباد الله في أرجاء الدنيا، والله ذو الفضل العظيم.

ولقد نبه عليه الصلاة والسلام على ما يجري في هذا اليوم العظيم من أمور مُهِمَّة، ومااختصَّهُ الله به من فضائل ومزايا لهذه الأمَّة، منها:

أولًا: أن صيامه يكفر سنتين، فيسن صيامه لغير الحاج، فقد اتفق الفقهاء على استحباب صوم يوم عرفة لغير الحاج، رَوَى أَبُو قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ).[أخرجه مسلم].

ثانيًا: أَنّه اليوم المشهود الذي أقسم الله به، في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: ٣]، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليوم الموعود: يوم القيامة، واليوم المشهود: يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة..). [رواه الترمذي وحسنه الألباني].

ثالثًا: أنه الوتر الذي أقسم الله به في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}.[الفجر: ٣]. قال ابن عباس: “الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة”، وهو قول عكرمة والضحاك.

رابعًا: أنه يوم العتقِ من النار: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (ما مِن يومٍ أَكثرَ من أنْ يُعتِقَ اللهُ فيهِ عبداً من النارِ مِن يومِ عَرَفَةَ، وإنهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُباهي بهِمِ الملائكةَ فيقُولُ: ما أرادَ هؤلاءِ). [رواه مسلم].

خامسًا: أنه يوم التضرع بين يدي الله والابتهال إليه وطلب الحاجات: قال عليه الصلاة والسلام: (خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قُلتُ أنا والنبيُّونَ من قبلي: لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ).[رواه الترمذي وحسنه الألباني].
وليس فضل الدعاء في يوم عرفة خاص بأهل الموقف فى عرفات، بل يشمل أهل الموقف وغيرهم من أهل الأمصار في شرق الأرض وغربها، وفضل الله واسع.

سادسًا: أنه أحد أيام الأشهر الحرم.
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ). [سورة التوبة : ٣٩]. والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب ويوم عرفة من أيام ذي الحجة.

سابعًا: أنه أحد الأيام المعلومات التي أثنى الله عليها في كتابه الكريم.
قال تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) [سورة الحج:٢٨]. قال ابن عباس –رضي الله عنهما-: الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة.

ثامنًا: أن الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم كان في عرفة ويوم عرفة. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ¤ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ¤ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.[الأعراف، ١٧٢ -١٧٤]

تاسعًا: أن الله يُباهي بأهل عرفات.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَاتٍ أَهْلَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُ لَهُمُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا غُبْرًا).
[صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب].

عاشرًا: أنه يوم عيد لأهل الموقف. روى أبو داود في سننه من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلَامِ).[صححه الألباني رحمه الله كما في صحيح سنن أبي داود]

الحادي عشر: وقوع ركن الحج الأعظم فيه، فمن فاته الوقوف بعرفة، فقد فاته الحج.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(الحج عرفة). [أخرجه أحمد فى مسنده ورواه أبو داود والترمزى والنسائى وابن ماجه فى السنن].

الثاني عشر: أنه يوم يغيظ الشيطان، يوم يعم الله عباده بالرحمات ويكفر عنهم السيئات، ويمحو عنهم الخطايا والزلات.

قال عليه الصلاة والسلام: (مارُؤِيَ الشيطانُ يومًا؛ هو فيه أَصْغَرُ، ولا أَدْحَرُ، ولا أَحْقَرُ ، ولا أَغْيَظُ منه يومَ عرفةَ، وما ذاك إلا لِمَا يَرَى من تَنَزُّلِ الرحمةِ وتَجَاوُزِ اللهِ – تعالى – عن الذنوبِ العِظَامِ ؛ إلا ما كان من يومِ بَدْرٍ ” ، فقيل : وما رَأَى من يومِ بَدْرٍ ؟ فقال : إنه قد رَأَى جبريلَ وهو يَزَعُ الملائكة).[مرسل، ضعفه الألباني].

الثالث عشر: أنه يوم إكمال الدِّين، وتمام النِّعمة.
عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. [الْمَائِدَةِ: ٣]، قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» [رَوَاهُ الشَّيْخَان].

الرابع عشر: أنه اليوم الذي خطب فيه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: خطبته العظيمة التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله فيها: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟)

الخامس عشر: أنه اليوم الذي يجتمع فيه التكبير المطلق والتكبير المقيد:
فالتكبير المطلق يُسن في عشر ذي الحجة وسائر أيام التشريق، ويبتدئ من غروب شمس آخر يوم من شهر ذي القعدة إلى آخر يوم من أيام التشريق، وذلك بغروب شمس اليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
ويبدأ التكبير المقيد من فجر يوم عرفة إلى غروب شمس آخر أيام التشريق. هذا لغير الحاج ، أما الحاج فيبدأ التكبير المقيد في حقه من ظهر يوم النحر.

إِنْ شِئْتَ تَبْلُغَ مُنْتَهَى الأَمَلِ
هَا قَدْ تَجَلَّتْ فُرْصَةُ الأَزَلِ

فَمَواهبُ الرَّحْمَنِ أَبْحُرُهَا
حُشِدَتْ بِعَشْرِ الحِجَةِ الأُوَلِ

هِي خَيرُ أَيَامِ الزَّمَانِ كَمَا
قَالَ المُشفَّعُ خَاتَمُ الرُّسُلِ

والأَجْرُ فِيهَا لَيسَ يَعْدِلُهُ
أَجْرٌ سِواهُ لِصَالحِ العَمَلِ

وَيَفُوقُ فَضْلَ(القَدْرِ) (تَاسِعُهَا)
بِبَهَائِهِ مِنْ سَائِرِ السُّبُلِ

فَبِهَا المَلائِكُ أُنْزِلَتْ وَبِهِ
يَتَنَزَّلُ الرَّحمنُ خَيرُ وَلِي

وإِذَا لَيلَةُ القَدْرِ خَافِيةٌ
(عَرَفَاتُ) يَومٌ وَاضِحٌ وَجَلِي

وفي الختام – أيها الأحبة – إن يوم عرفة منحة ربانية لتجديد الإيمان، وصلة العبد بخالقه، وما أحوجنا إلى أن نعظم ذلك اليوم بما يقربنا إلى الله – عز وجل – ونعيشه بكل تفاؤل بأن الله تعالى سيقبلنا بفضله، ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء وأن نفرغ قلوبنا فيه للطاعة طمعاً في رحمة الله تعالى.

ولنتذكر وقوف الحجيج بعرفة بحال وقوف الخلائق بين يدي الله –تعالى- يوم القيامة، وأنه موقف مصغر عن موقف الحشر.

اللهمَّ تقبل منَّا صالح العمل، واغفرْ لنا الذَّنبَ والزَّلل، وتوفنا وأنتَ رَاضٍ عنا.

وصل اللهُم وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *