الاستجابة للجهل !!

✒️ وأنا أتأمل آية في سورة يوسف حينما فضل عليه السلام السجن بديلا عن اقتراف الحرام !! شيء عجيب هذا النص ( قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه ..) ثم قال (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) !!
وكأن المعنى هنا يقول بأن الاستجابة لما حرم الله نوع من الجهل !!
وحين التأمل والتدبر تجد فعلا .. بأن مسار الجهل هو النكوص عن مرادات الله أيا كانت في العبادة والعادة او العلاقات البشرية أو الانظمة الاقتصادية والاجتماعية .. !!
وللجهل عواقب وخيمة وعظيمة تحتاج منا لوعي بها ولها لأنها تؤثر في واقع حياتنا وتشكل آفاق مستقبلنا.
وحينما تتأمل مفردة الجهل في كتاب الله تجد ان أعظمها
الإعراض عن عبادة الله.
ولذلك كان اعظم الناس خشية أعرفهم بالله ( إنما يخشى الله من عباده العلماء).
المستجيبون لنداءات الجهل هم اكثر الناس قلقا وخسرانا في الدنيا والآخرة.
والاستجابة للجهل من حبث الأصل وليدة أمرين هما الهوى والشهوة بمظاهرهما المختلفة.
وشعار الوقاية من الجهل :
(وأعرض عن الجاهلين) وهم الباحثون عن الشهوات ..
و (لا نبتغي الجاهلين) ..
وهم اللاهثون خلف الشبهات.
وبنية الجهل يمكن ان تغذيها مختلف الأنساق الاجتماعية كما يمكن ان تكون طاردة لها بناء على العقول والقلوب التي تدير دفتها.
ولعل أهم منظومة يمكن ان تؤثر في تركيبة الجهل هي متظومة التعليم والتربية. التعليم الذي يبدأ بالبيت ويترسخ في قاعات التعليم ومجالسه .. والتربية التي تمتد حتى كرسي المسؤولية.
وهنا عشر قراءات مختصرة في مفاهيم الجهل التي نحتاج لتأملها في حياتنا .. لأن بنية الجهل تتراكم مع الزمن مالم يكن هناك تشخيص لها من أجل الحد منها في مظاهر حياتنا الدينية والدنيوية .. ومنها :
أولا الاستجابة للجهل في العبادة
وهي اعظمها وأشدها .. والجهل بالله أشنع مظاهر التسفل الإنساني.
بل إن أعظم مظاهر ظلم الإنسان لنفسه أن يعبد غير الله. وفي وصية لقمان لابنه ( إن الشرك لظلم عظيم). وفي تفسيرنا الاجتماعي .. فالحياة تتعقد وفق او بقدر تلوث صفاء معنى العبادة في حياة الناس في مختلف مظاهرها.
ومن الجهل العبادي العمل بغير السنة النبوية لأن العمل يحتاج لأمرين ليتم قبوله الأول الاخلاص وثانيا المتابعة. فإذا انتفى احدهما لم يقبل.
ولذلك فمسار الجهل التعبدي هو الإخلال بهما.
ثانيا الاستجابة للجهل في أعمالنا:
وتعني كل عدول عن مظاهر الحق والعدل في شؤون حياتنا.
سواء كان ذلك في تعاملاتنا أو إدارتنا لمؤسساتنا او في شبكة علاقاتنا. ففي العمل من الجهل عدم تقديم الأكفأ بل إنه يؤدي للجهل على الناس بتصرفات مؤذية .. وفي موازين بيعنا وشرائنا تطفيف الكيل في مظاهر بيعنا وشرائنا من الجهل .. وفي شبكة علاقاتنا اختيار الشخصيات والبيئات التي توردنا المهالك من الجهل.
ولذلك فالحيطة في العمل وقاية من السقوط في الجهل.
ثالثا الاستجابة للجهل في الحكم الذي يخالف ما أنزل الله وفي نصه الصريح ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) … والعدول عن حكم الله بمختلف صوره مظهر مدمر لأمن المجتمع واستقراره.
وفي الجملة يمتنع الاستقرار إذا
استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير .. !!
واعظم الجهل ان نظن ان الاستجابة لأنظمة الخلق أصلح من توجيهات الخالق.
رابعا الاستجابة للاهواء:
والقصد هنا هو أنه كلما مال الإنسان عن محكمات الشريعة في تفكيره كلما انحرف للجهل سواء في الشدة او الحدة أو انجرف للعلمنة واللبرلة.
وجهل الأهواء ان نظن بأن الله ترك الإنسان عبثا دون هداية له لما يصلح حاله ومآله .. ولذلك يلهث باحثا عن حلول لحياته .. وكأنه لا يعلم بأنها في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى .. ( ما فرطنا في الكتاب من شيء).
خامسا الاستجابة للجهل في الشهوات :
وهي الفاصل في مدى تقواه واتقاؤه مواطنها التي تشده للجهل سواء أكان في تصرفه الشخصي او بمشاركة من معه في تكريس ممارسات الجهل الشهواني الذي يضل ويزل الإنسان فيه خصوصا حينما يتعرض لأسبابه. ولذلك كان من علاجات جهل الشهوات عدم القرب من مسبباتها (ولا تقربوا الفوحش ما ظهر منها وما بطن) سواء في شخصياتها او بيئاتها أو مشاهداتها.
وكل ذي عقل يعرف ما يشهده للجهل أكثر من غيره في أبواب الأهواء والشهوات.
وشواهد الحياة المعاصرة في المشرق والمغرب كافية في مظاهر ونتائج العدول عن عدل حكم الله الذي فيه صلاح المعاش الإنساني.
والحرث في مفردة الجهل بمختلف اشكالها ومعانيها يمكن ان نتدبره في مظاهر حياتنا الدينية والدنيوية كل حسب عمق فكره وغوصه لمدلولاتها وتطبيقاتها في حياتنا الاجتماعية. وهنا جولة ( مكملة) لبعض معانيها في التنزيل الحكيم ومنها:
سادسا: في مقام الأنبياء .. يوجه الله نبيه نوح ( إني أعظك ان تكون من الجاهلين) فعلم الله في مصير ابنه اكبر من عاطفة الأبوة وحنانها .. فإذا قضى الله أمرا فأعظم الاستحابة .. التسليم لأمره .. ودون ذلك الجهل.
وعليه هنا لا جدل او جدال فيما قدره الله وأمر به .. فالتلسليم علامة يقين .. بل يورث الاطمئنان.
سابعا: في قصة موسى بيان لأعظم الجهل في حكاية بني اسرائيل بعد ان نجاهم الله من فرعون .. فمروا على قوم يعبدون اصناما لهم فقالوا لموسى ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) وهنا صعق موسى عليه السلام وكأنه يقول .. الآن نجاكم ربكم من عدوكم وتطلبون عبادة غيره .. يا للعجب !!
( إنكم قوم تجهلون).
وأعظم الجهل هنا ان تنسى او تتناسا فضل نعم الله عليك.
ثامنا :
وفي قصة لوط عليه السلام دعوة للخلاص من أرذل مظاهر الجهل البهيمي حيث يستبدل قومه ما احل الله من ( الطهر) إلى الرذيلة البهيمية وهي الفاحشة الكبرى التي ينادي بها
صناع الجهل في الشرق او الغرب التي يسمونها بالمثلية وهي اللوطية المقيته .. فيقول لوط عليه السلام ( أتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) نعم .. جهل بالله وجهل بعواقب الفاحشة الأرذل في الحياة. فكانت عاقبة القوم لانقلاب فطرتهم هي انقلاب مساكنهم ( فجعلنا عاليها سافلها) وكأن هذا العقاب هو تعبير عن انقلاب فطرهم فكان جزاؤهم قلب اماكنهم لأنها ( قلبت الفطرة) ولا تستحق الحياة وليست اهلا لها.
وهنا رسالة لشذاذ الآفاق الذين ينادون او يدعمون او يستجيبون لحركة الجهل الرذيلة.
الجهل مؤذن بخراب العمران البشري.
تاسعا : ومن مفردات الجهل العصبية والعنصرية وحمية الجاهلية .. وهي المعنية بقوله تعالى في سورة الفتح (حمية الجاهلية) والقصد هنا ان هناك من تأخذه العزة لبعد عنصري وحمية لمفاهيم دنيوية دون ( الحمية ) لله وحقائق شرعه التي فيها الخير والعدل والأمن والأمان.
فشتان بين من ينافح لأسباب الدنيا ومن يكافح لمنازل الآخرة.
عاشرا : ومن العجيب الجميل المهم هنا لمظاهر الجهل قول الحق للنساء
( ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) وهذا يعني بكل معانيه أن الستر ضد الجهل والجاهلية .. وأن كل مظاهر التعري .. او اي لباس يظهر مفاتن المراة يؤدي بها الى الجهل الذي يضر بصحة شخصها وأمن شخصيتها.
هذا يعني أن اي مظهر او دعوة تفسخ هي ( استجابة للجهل) وتؤدي بدورها لفساد شأن الاجتماع الإنساني.
وأنهي الجولة بلفتة جميلة في مفردة الجهل في التنزيل الكريم في سورة القصص وهي .. تربية الذوق في التصرف المتمثل في الإعراض عن الجاهلين ( سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) .. وهم أولئك الناس الذين يجلبون الضرر للإنسان في دينه ودنياه.
قل لهم ( سلام) والسلام هنا ليس الاحتفاء بهم .. وإنما الهروب منهم ( ليسلم) الإنسان من غلوائهم وإغوائهم !!
والحرث في مفردة الجهل بمختلف اشكالها ومعانيها يمكن ان نتدبره في مظاهر حياتنا الدينية والدنيوية كل حسب عمق فكره وغوصه لمدلولاتها وتطبيقاتها في حياتنا الاجتماعية.
موضوع جميل ويستحق التأمل كثيرا .. وهناك عروض ونماذج لإشكالة مفردة الجهل ومدى القرب او البعد منها وعنها في أفكارنا وسلوكنا وتعاملاتنا .. ومعاشنا.
والجهل فيه ما هو معلوم من الدين بالضرورة او من الحياة بالخبرة والممارسة .. ولذلك كان هناك جهل مركب وهو الإصرار على فعله مع العلم بأن نتائجه وخيمة على الفرد والمجتمع والبيئة.
وأختم بمعلومة نفسية نفسية هي أن استجابتنا للحق والخير والعدل تفتح لنا آفاقا لكل ما فيه أمن وتنمية ورفاه شخصياتنا ومجتمعاتنا. والاستجابة للجهل تعكس المعادلة.
اللهم احفظنا من الجهل والجاهلين .. واجعلنا قدوتنا خير المرسلين. آمين

أ.د خالد بن عبدالعزيز الشريدة

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *