فن التعامل ..

إن من أكبر الأخطاء فداحة أن يتعامل الناس مع بعضهم و يقيمون بعضهم البعض من خلال مظاهرهم الخارجية فحسب دون النظر إلى جواهرهم ، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الخلق خلقهم في أحسن تقويم … خلاف المخلوقات الأخرى ، و الله سبحانه كل أمره حكمة فهو الحكيم في أفعاله و أقواله …

نعم عندما خلق البشر لم يتركهم جسداً بلا روح أو روح لا تعقل ما حولها ، ولكن أودع في هذا المخلوق العجيب مشاعر و أحاسيس و قبل ذلك عقل يتدبر به الصالح من الطالح ، و الغث من السمين ، و الضار من النافع ، و كيفية الارتقاء بالإنسانية و الوصول بها إلى الغاية التي خلقت لأجلها ..

لذلك من الخطأ أن ننظر إلى أي شخص و نقومه ونعامله من خلال مظهره ، فالمظاهر قلما تصدق في حكمها و هي خداعة هي والظن توأمان ، فقد أخبرنا مولانا جل ذكره إن بعض الظن إثم ، و هكذا الحكم على المظهر دون الجوهر ..

فكم من أناس قد حكم عليهم البعض حكماً جائراً لا إنصاف فيه من خلال صورهم الظاهرية و أشكالهم الخارجية فقط ، فإذا بجوهرهم قد أذهل الناس بما يملكون من قيم و أخلاق نبيلة وسعة أفق ونبل مشاعر ، وكذبت أفعالهم كل ظنون الحاكمين عليهم من خلال مظاهرهم ، ولو انتقلنا إلى عكس هؤلاء لوجدنا النقيض كذلك ..

ففي المجتمع أيضاً قوم أجادوا فن التعامل فلم تخدعهم المظاهر و لم تلههم عن رؤية الحقيقة واضحة و غاصوا داخل أعماق الانسان ، و قلبوا الفكر الحصيف ، و سبروا أغوار النفس الإنسانية كالغواص الماهر الذي يجوب أعماق البحار لاستخراج الجواهر الثمينة ، فهو لم يكتفي بالوقوف على الشاطئ و إصدار أحكام إرتجالية متسرعة بل حثته نفسه الوثابة المتطلعة إلى السمو و العلو إلى ركوب المخاطر لصيد الجواهر الثمينة ..

هكذا هم واسعي الأفق و الذين يحملون نفوساً أبية نبيلة ، و بكلمة جامعة أقول هم الذين تغلبوا على أنفسهم و روضوها و ارتقوا صهوتها بفن و براعة منقطع النظير للإرتقاء بها إلى علو النبل و الشهامة و حب و تقدير الآخرين ..

وخير شاهد على ذلك الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ))

إنها الحقيقة نعم .. ففي مجتمعنا فئام من الناس دأبهم و ديدنهم تقييم الإنسان بمظهره الخارجي .. يحكمون على الهندام فقط .

لماذا هذا السلوك الغير حضاري و الذي يضرب بأطنابه و جذوره في عمق المجتمعات الجاهلية ، التي أتى الإسلام و اقتلعها من جذورها و ألقاها بعيداً هناك حتى لا تلوث طهارة النفس الإنسانية التي خلقها الله و كرمها على سائر المخلوقات ..

إذاً مادام الأمر كذلك فلا ينبغي لمن سيستلم خلافة الله في الأرض أن يتسفل بتعامله مع إخوته و الحكم بما يملك أخاه في الإنسانية من مظهر حسن أو قبيح ، أو ما يمتلك من متاع الدنيا و زخرفها ، أو هو خال من هذه الكماليات من متاع الدنيا الزائل و الوسائل التي تقيم الأود ، و التي يحسبها البعض لقصر نظرهم و عدم تقييم الأمور بالشكل الصحيح أنها الأساس الذي من خلاله يكون التعامل ..

ولهذا الأمر بدأت الأمور تأخذ منحى غير الذي يجب أن تكون عليه ، و هذه النظرة تعزز الفرقة بين المجتمعات و تبني حاجزاً سميكاً من عدم الثقة ، فيغدو المجتمع متخلخلاً متذبذباً غير متماسك ، و أقل ريح تهب عليه من هذه الأعاصير التي يثيرها الأعداء المتربصون الذين يتحينون الفرص لتفريق المجتمع تقتلعه اقتلاعاً ، وترمي به في أتون الخلافات و جحيم العداوة والبغضاء ..

و ليس لهذا خلق الله البشر من نفس واحدة و الله قادر أن يخلق البشر متفرقين و من آباء شتى ، و لكن لحكمته جعلهم من أب واحد و أم واحدة  ليعودوا حتى و إن اختلفوا بفعل شياطين الإنس والجن الذين يذكون نار العداوة و البغضاء .. نعم يعودون و يتذكرون أنهم إخوة كما يختلف الأخ مع أخيه الشقيق ..

كلنا يعلم ذلك الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه و هو ( روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي : ” أنه مر رجل من فقراء المسلمين على النبي يوماً فقال النبي لأصحابه : ( ما تقولون في هذا ؟ ) ، فقالوا : رجل من فقراء المسلمين ، هذا و الله حرى إن خطب ألا يزوج ، و إن شفع ألا يشفع ، ثم مر رجل آخر من الأشراف ، فقال : ( ما تقولون في هذا ؟ ) ، قالوا : رجل من أشراف القوم هذا و الله حرى إن خطب أن ينكح ، و إن شفع أن يشفع ، فأشار النبي على الرجل الفقير الأول فقال : ( والله هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا )).

أتساءل ما الذي يضطرنا لتبني هذه الأحكام و الأفكار في تعاملاتنا ؟!!

إن الله سبحانه و تعالى عندما خلق الإنسان فضله على جميع الكائنات ، و هيأ له الكون و جعله خليفة في الأرض يعمرها و يستفيد و يفيد ، و جعل كذلك البشر متفاوتون في الرزق .. فأن يكون البعض مسخراً للبعض الآخر ليس معناه أن هذا أقل شئناً من هذا أبداً .. فقط لستقيم الحياة و يتعايش الناس مع بعضهم إلى أن يردوا جميعاً إلى خالقهم فسائلهم عما اجترحوا .

وما يدعونا لقول هذا إلا لما نراه يتفاقم و يزداد أشراً و عربدة من خلال التعامل الغير سوي من البعض ، و نحن نجتهد بما أعطانا الله من قدرة و نحاول بجهدنا بعد عون الله أن نرتقي بمجتمعنا إلى المثالية و تعزيز المحبة والوئام لأفراد المجتمع و الأرض التي تجمعنا و تضمنا تحت جناحيها مستعينين بالله ..

أخيراً .. لقد صدق من قال :
ياخادم الجسم كم تشقى لخدمته  ** أتطلب الربح مما فيه خسران
أقبل على النفس و استكمل فضائلها ** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان ..

نسأل الله أن يردنا إليه رداً جميلاً و أن يغفر لنا و يرحمنا .. وصلى الله على نبينا محمد و على آله وصحبه وسلم .

 

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “فن التعامل ..

ابو عبد العزيز

ما شاء الله تبارك الله دائماً رائع يا ابا ليلى
تنتقي المواضيع الهامة المعاصرة .. لا فض فاك
ولا جف حبر قلمك الذهبي الرائع زدنا زدنا
من ابداعك وفقك الله ورعاك .. تحياتي

ابو الحارث

جزاك ألله الف خير يا أباليلى وبارك الله فيك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *