بين غُرُوبٍ وَشُروق

الحمدُ للهِ مُنشئُ الأيامِ والشهور، ومفني الأعوامِ والدهور، المتفردِ بتقديرِ الأقدارِ وتصريفِ الأمُور، يَعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخْفِي الصُّدُور.

وأشهدُ أن لا إلـه إلا الله الغفور الشكور. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل آمر وأجل مأمور. اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وضاعف اللهم لهم الأجور.

أمابعد….

أيام قلائل – أيها الأحبة – وتغرب شمس عام ١٤٤٣هجري وتشرق شمس عام ١٤٤٤ هجري.

ولانَزْعُمُ أن معها تُطوى صحائف أعمالنا هذه اللَّيلة أَو غدًا، فعمل المُؤمن مستمر ما دام حيًّا، وقلمُ التَّكليف جارٍ عليه ما بقيت الرُّوح في الجسد، فلا علاقة لنهايةِ عامٍ ينقضي، أوبداية عامٍ جديدٍ بِطيِّ الصُّحف، وإنما الذي دلت عليه السُّنَّة أن أعمال العباد كما ذكر أهل العلم: تعرض على الله – عز وجل- على ثلاثة أنواع من العرض:

العرض الأول: العرض اليومي، في كل يوم مرتان: مرة بالليل ومرة بالنهار.

ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ).

العرض الثاني: العرض الأسبوعي، ويقع مرتين أيضًا: يوم الاثنين ويوم الخميس.
ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا).

العرض الثالث: العرض السنوي، ويقع مرة واحدة في شهر شعبان.
روى النسائي عن أُسَامَة بْن زَيْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَارَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟!! قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) حسنه الألباني في صحيح الجامع.
وأما مايعتقده البعض أن في أخر العام تطوى صحائف الأعمال، فهذا لا أصل له، والذي ثبت في السُّنَّة أن العرض السنوي هو في شهر شعبان كما سبق.

وخير ما نختم به العام – أيها الأحبة – ونستقبل به العام الذي يليه وقفة اعتبار وادِّكار ومحاسبة، ننظُر إلى هذه الشمس تطلُع كلَّ يوم من مَشرقها ثم تغرُب في نهايته، وننظر إلى الهلال يُولدُ صغيرًا ثم يتناقص حتى يتوارى عن الأنظار، وننظر إلى العام الجديدِ كيف تبدو نهايتُه بعيدةً، فما تلبَثُ الشهور والأيام أن تنقضي سِراعًا حتى تصل إلى النهاية.

هذه حقيقة لاتخفى علينا وإنما تَحْجُبنَا عنها حُجُب الغفلة وصوارف الإعراض والاغترار وطول الأمل.

مَضَتِ الشُّهُورُ وَقَارَبَتْ فِي سَيْرِهَا
سَيْرًا حَثِيثًا بَعْدَهَا أَعْوامُ

مَرَّتْ مُرُورَ الطَّيفِ غَيرَ مُمَيزٍ
وُكَأَنْهَا فِي سُرْعَةٍ أَيَامُ

ومن عرف حق الأيام، فقد أدرك قيمة الحياة، فالوقت هو الحياة، والليل والنهار مراحل نقطعها مرحلة مرحلة، حتى تنتهي بنا المهلة، ونلقى الله -تعالى- وحينما ينقضي عام من حياتنا، ويدخل عام جديد، فإنه لابد من وقفة محاسبة صادقة مع النفس.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: ١٨].

يقول الشيخ السعدي – رحمه الله تعالى -: “وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه”

وقال صلى الله عليه وسلم:(الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني).[رواه الترمذي وابن ماجه، وضعفه الألباني]. ومعنى دان نفسه: أي حاسبها.

والمؤمن الذي يعلم أن أيامه معدودة وأنفاسه محسوبة؛ تكون له وقفات مع نفسه يطّلع على عيوبها، ويحاسبها على جميع حركاتها، وسَكَناتها، وخَطَراتها، وخطواتها، وأعمالها، وأقوالها، وأفعالها، فيكبح جماحها، ويصحح ما اعوجّ من سلوكها، ويتدارك ذلك بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية للسيئات.

فمن حاسب نفسه في الدنيا قبل أن يُحاسَب في الآخرة، خفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبهُ ومآلهُ، ومَن لم يحاسب نفسه دامت حسرته، وطالت في عرصات القيامة وقفته، وقادتْه إلى الخزْي والمقت سيِّئته.

‏يَانَفْسُ كُفّي عن العِصْيانِ واكْتَسِبِي
فِعْلاً جَمِيلًا لَعْلّ اللهَ يَرْحَمُنِي

يَانَفْسُ وُيحَكِ تُوبِي واعْمَلِي حَسَنًا
عَسَى تُجازَيْن بَعْدَ المُوتِ بالحَسَنِ

ورحم الله السَّلف الصَّالح ورضي الله عنهم ؛ فقد ضربوا لنا أروع الأَمثِلة في محاسبة أنفُسِهم وتقويمها، وما ذاك إلاَّ لعلْمِهم بمكانة المحاسبة ومنزِلَتها، ها هو ابن الخطَّاب – رضي الله عنه – يقْصِد حائطًا يكلِّم نفسه قائلاً: “عُمر، أمير المؤمنين، بخٍ بخ، والله بنُيَّ الخطَّاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك”.

وقال ميمون بن مهران: “لا يكون الرَّجُل تقيًّا حتَّى يكون لنفسه أشدَّ محاسبة من الشَّريك لشريكه، وحتَّى يعلم من أين ملبسه ومطْعمه ومشربه”، ونقل عن ابْنِ الصِّمَّة أنَّه جلس يومًا يُحاسب نفسَه فعدَّ عمره فإذا هو ابن ستِّين سنة، فحسب أيَّامها فإذا هي واحد وعشرون ألفًا وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي! ألقى الله بـواحد وعشرين ألف ذنب.

والنَّفْسُ تَعْلمُ أَنـِى لا أُصَادِقُهَا
وَلسْتُ أرشُدُ إلا حِيـنَ أَعْصِيهَا

هذه صور مشرقة، ولمحات مضيئة، ونفحات إيمانية تدلُّ على اهتمام سلفنا الصالح بمحاسبة أنفسهم، تأمل كيف كانوا يعتبرون بمرور اللحظات والدقائق والأيام والليالي، وكانوا يحاسبون أنفسهم في جميع أوقاتهم؛ كانوا ينظرون للحياة أنها دقائق وثوان وليست أعواماً كما ننظر إليها نحن! ؛كانوا يعلمون أنهم في سباق؛ وأن السباق لابد فيه من فائز وخاسر، وأن جائزة السباق إما سعادة الأبد وإما شقاء الأبد، وياله من فوز! ويالها من خسارة!

يقول ابنُ القيمِ رحمه الله: “ومن تأملَ أحوالَ الصحابةِ رضي الله عنهُم وجدَهم في غايةِ العملِ معَ غايةِ الخوف، ونحن جمعنا بين التقصير، بل بين التفريطِ والأمن”.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: “ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي”.

وقال مالك بن دينار: “رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً”

وقال الحسن: “إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته”

‏أَقْبِلْ عَلَى النَّفِسِ واسْتَكْمِلْ فَضَائِلَها
فَأنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالجِسْمِ إِنْسَانُ.

وقبل أن أختم مقالي – أيها الأحبة – أحب أن أنبه على بعض فوائد محاسبة النفس، منها:
١- أنها تكشف للمسلم عيوب نفسه ومساوئها.
٢- أنها تجعل المسلم وقَّافًا عند حدود الله.
٣- أنها تُعَرِّف المسلم على حق الله تعالى، وعظيم فضله عليه.
٣- أنها تعينه على التوبة، والندم، والرجوع، وتدارك مافات من الأعمال الصالحة.
٤- أنها تجعله يزهد في الدنيا، ويمقتُ النفس، ويخلصها من الكبرِ والعُجْب والغرور.
٥- أنها تعينه على الاجتهاد في الطاعة، وترك المعاصي.
٦- أنها تزكي النفس، وتطهرها وتصلحها، وتلزمها أمر الله.
٧ – أنها تربي النفس على الشعور بالمسؤولية.
٨- أنها تحقق السعادة في الدارين ونيل رضا الله تعالى ومحبته.

فحريٌّ بنا أن نستلهم العبر والعظات والدروس من تصرم الليالي والأيام والأعمار، ونعلم بأن هذه الدنيا كالخَيَال، لابد أن يطرأ عليها الزوال، وإلى الله مرجعنا، والقبر يضمنا، ويوم القيامة يجمعنا، فهنيئًا لمن قدّم في هذه الدنيا ليوم المعاد ماينفعه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وليكن كلُ واحدٍ منّا رقيباً على نفسِهِ، يُحاسبها ويُقيمها، ولايَسْعَ ليكون رقماً على كوكب الأرض فقط، بل يبحث كيف يكون اسماً ذا بصمة تبقى في ذاكرة الأيام، ونسمةٌ تَهبُ على البشريةِ بالخصبِ والرخاء.

مَضَى أَمْسُكَ المَاضِي شَهِيدًا مُعْدَلًا
وأَعْقَبَهُ يَومٌ عَلَيكَ جَدِيدُ

فَإِنْ كُنْتَ بالأَمْسِ اقْتَرِفْتَ إِسَاءةً
فَثَنِّ بإِحْسَانٍ وأَنْتَ حَمِيدُ

ولَا تُرجِ فِعْلَ الخَيرِ يَومًا
إِلَى غدٍ لَعْلَ غَدًا يَأتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ

وَالحمدُ للهِ رَبِّ العَالمِينَ، وصلَّ اللهُ وسلَّم على نَبِيِّنا محمَّدٍ، وعلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “بين غُرُوبٍ وَشُروق

غير معروف

جزاك الله خير وزادك الله علما وتوفيقا وسداد

عبدالله يوسف الريمي.

ماشاء الله.كلام جميل.يجب أن بتمعنه الجميع.
بارك الله فيكم.وكثر من أمثالكم.وزادكم علم وتقوى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *