الحمد لله مكور الأيام والشهور، وجعل لعباده الصالحين مواسم لزيادة الطاعات، والصلاة والسلام على خير الأنام الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ومن اقتفى بأثره إلى يوم الدين.
أما بعد…
يهل علينا شهر محرم في مطلع عام هجري؛ فكان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ينشر الهداية والنور بين القلوب ودروب العباد؛ فإن شهر محرم من الأشهر الحُرم التي ذكرها رب العباد في كتابه العزيز: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وقيل سمي هذا الشهر محرماً لتحريم القتال فيه، ويوم العاشر من هذا الشهر، هو يوم مكرم بالعزة والانتصار والفرح بنجاة أهل الله حيث أنجى الله عز وجل فيه عبده ورسوله موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين من ظلم الطغاة، وبطش الظالم فرعون وجنوده.
وابتهاجاً وتعظيماً وشكراً لله على هذه النعمة بالتقرب بصيامه؛ لحديث ابن عباس رضى الله عنهما قال: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». رواه صحيح مسلم (1130).
ويشرع صيام يوم عاشوراء وهو سنة عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، لحدث ابن عباس- رضى الله عنهما- قال «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ…». رواه البخاري (2006)، ومسلم (1132).
وصيام هذا اليوم المبارك له فضل عظيم، يحتسب فيه تكفير الذنوب والمعاصي كما جاء في حديث أبي قتادة – رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ». رواه صحيح مسلم (1162).
فرحاً وحباً بهذا اليوم المكرم يستحب حث الصبيان وتعويدهم على صيامه، كما كانت نساء الصحابة رضوان الله عليهم يفعلن، جاء في حديث الربيِّع بنت معوذ – رضي الله عنها- قَالَتْ: أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ: «مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَليَصُمْ»، قَالَتْ: فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ”. رواه البخاري (1690) ومسلم (1136).
وصيام هذا اليوم المكرم سنة ليس فرضاً على العباد؛ لحديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ اللهِ، فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ». رواه مسلم (1126).
ويسن مخالفة اليهود في صيام هذا اليوم، بأن يصوم قبله يوم وهو التاسع من محرم؛ لحديث عَبْد اللّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهِ. رواه مسلم (2619).
وختاماً: يجب على المسلم أن يبتهج فرحاً بنصر الله لعباده المستضعفين على الظلمة الطغاة في كل زمان ومكان، ولا تفتر همته ويكل عن صيام هذا اليوم الأغر مع البعد عن المعاصي والرجوع إلى الله عز وجل بالتوبة النصوحة.
د. مُيَسَّر سلامة أبو عمرة
باحثة علوم شرعية
30 ذو الحجة 1443ه
مقالات سابقة للكاتب