شَهرُ اللهِ المُحَرَّمِ فَضَائِل وأَحْكَام

الحمد لله المتفرد بالعظمة والجلال، المتفضل على عباده بجزيل النوال.

أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وهو الكبير المتعال.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى الحق، والمنقذ بإذن ربه من الضلال، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.

أمابعد…

فمن نفحات الله تعالى لعبادهِ وتجلِّيات رحماتهِ بهم، أنه تعالى يُتابع لهم مواسم الخيرات بعضها تِلْو بعضٍ، فما من موسم من المواسم الفاضلة إلا ولله تعالى فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتهِ، يُتقرَّبُ بها إليه، وله فيه لطيفةٌ من لطائفِ نفحاتهِ، يُصيبُ بها من يشاء بفضلهِ ورحمتِهِ : فالسعيدُ – أيها الأحبة – من اغتنمَ هذه المواسم وتقرَّبَ فيها إلى الله – عزوجل – عسى أن تصيبه نفحة من نفحات الله -تعالى- .

فما أن انقضى شهر ذي الحجة – أيها الأحبة- حتى أقبل علينا شهر الله المُحرَّم، شهرٌ عظَّمهُ الله، وهو أول شهور السنة الهجرية، وأحد الأشهر الأربعةِ الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهور عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.[التوبة: ٣٦]
وعن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: (السَّنَةُ اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات؛ ذو القَعدة، وذو الحِجة، والمحرَّم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان).[رواه البخاري].

وسمِّي محرَّمًا، لأن العرب في الجاهلية كانوا يُحرِّمون فيه القتال، وكانت العرب في جاهليتها مع ما كانوا عليه من الضلال والكفر يعظمونه مع باقي الأشهر الحرم.
وسماه النبي صلى الله عليه وسلم:
شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ كما في الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (أفضَلُ الصِّيامِ بعد رمضانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ). [رواه مسلم].

شَهْرُ الحَرَامِ مُبَاركٌ مَيْمُونُ
والْصَّوْمُ فِيْهِ مُضَاْعَفٌ مَسْنُونُ
*********************
وَثُوَاْبُ صَاْئِمِهِ لِوَجْهِ إِلَهِهِ
فِي الخُلْدِ عِنْدَ مَلِيْكِهِ مَخْزُوْنُ

*من فضائل شهر الله المحرم:*
*أولًا:* أنه أول شهور السنة الهجرية وهو من الشُّهورِ الحُرُمِ التي عظَّمها الله – تعالى – وذكرها في كتابِه، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهور عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.[التوبة: ٣٦]

*ثانيًا:* شرَّفهٌ اللهُ – تعالى – من بين سائرِ الشُّهورِ، فسُمِّي: بشهرِ اللهِ المُحَرَّم، فأضافه إلى نفسِه؛ تشريفًا له، وإشارةً إلى أنَّه حرَّمهُ بنفسه، وليس لأحدٍ من الخلقِ تحليلُه.

*ثالثا:* أنه يستحب الإكثار فيه من الصيام.
قال عليه الصلاة والسلام: (أفضَلُ الصِّيامِ بعد رمضانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ). [رواه مسلم].
قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: “قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم) تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم”.
وسُئِلَ شيخنا الشيخ بن عثيمين – رحمه الله – عن مشروعية صيام شهر محرم كاملًا؟ فقال – رحمه الله -:من العلماء من قال أنه يصام الشهر
كاملًا، لكن الأفضل أن لايصومه كاملًا؛ لأن عائشة – رضي الله عنها – تقول:” ماكان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا كاملًا إلا رمضان”

*رابعا:* أنه أفضل الأشهر الحرم.
فقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل فقال الحسن وغيره: “أفضلها شهر المحرم” ورجحه طائفة من المتأخرين.

*خامسًا:* أن فيه يوم عاشوراء. ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرَّم، وصيامه آكد يوم من أيام شهر الله المحرم، وهو يكفر السنة التي قبله.
سُئِلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن صومِ يوم عاشوراءَ؟ فقال: (أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قَبْلَه).[رواه مسلم].
وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا الله بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
قـال البـيـهـقـي في فضائل الأوقات: “وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفِّرها؛ فإن صادف صومه وقد كُفِّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته، وبالله التوفيق”

*سادسًا:* جـاء في فضل عاشوراء أنه يوم نجَّى الله فيه نبيه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين معه، وأغـــرق فيه فرعون وحزبه؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المديـنـة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟” فـقـالـوا: هــــذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرّق فـرعـون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عـلـيـه وسلم: “فنحن أحق وأوْلى بموسى منكم” فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه).[البخاري،ومسلم].

*من أَهمِّ أحكام شهر الله المحرم* :
*أولًا:* تحريمُ ابتداءِ القتالِ فيه.
وقد اختلف العُلماءُ في تحريمِ ابتداءِ القتالِ في الشَّهرِ الحرامِ: هل هو منسوخٌ أو مُحكَمٌ؟ على قولينِ:
الأول: وهو الأشهَرُ: أنَّه منسوخٌ؛ لأنَّه -تعالى- قال: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} وأمَرَ بقتالِ المشركين.

والقول الثاني: أنَّ ابتداءَ القِتالِ في الشَّهرِ الحرام حرامٌ، وأنه لم يُنسخ، لقولِه تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ….} الآية.[البقرة:١٩٤]
وقال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ…} الآية.[التوبة: ٥]

*ثانيًا:* تحريم الظلم فيه:
قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهور عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.[التوبة: ٣٦]
ومن أعظم الظلم أن يأكل أموال الناس، قال تعالى:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.[المطففين: ١]
ومن أعظم الظلم أن يهتك أعراض الناس، قال تعالى:{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }.[الهمزة: ١]
ومن أعظم الظلم أن يشاهد المسلم الحرام، أو يتكلم بالحرام، أو يسمع الحرام.

‏‎أما والله إنَّ الظُلم شؤمُ
وَلاَ زَالَ المُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
********************
إِلَى الدَّيَّانِ يَوْمَ الدِّيْنِ نَمْضِي
وعند الله تجتمعُ الخصومُ

*ثالثًا:* أن صيام يوم عاشوراء يكفر كل الذنوب الصغائر، دون الكبائر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في الفتاوى الكبرى: وتكفير الطّهارة، والصّلاة، وصيام رمضان، وعرفة، وعاشوراء للصّغائر فقط.

*رابعًا:* مشروعية مخالفة الكفار في صيام يوم عاشوراء:
فقد جاءت الشريعةُ بمخالفة الكفار عامّة، ومخالفتهم في أعيادهم خاصة، فخالف النبيُّ صلى الله عليه وسلم اليهودَ في عاشوراء من وجهين:
الوجه الأول: عدم اتخاذ صيامه عيدًا؛ كما فعلت اليهود فقد اتخذوا هذا اليوم عيدًا وعظموه؛ لنجاة موسى فيه، فخالفهم عليه الصلاة والسلام في ذلك.
الوجه الثاني: في ضمِّ صيام اليوم التاسع معه؛ إمعانًا في المخالفة، وتأكيدًا لها؛ فمن المستحبّ أن يصوم المسلم اليوم التّاسع مع اليوم العاشر من شهر الله المحرَّم، وذلك لما ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لمّا صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنّه يوم تعظمه اليهود والنّصارى ! فقال: «إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع»، قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

*خامسًا:* حكم صوم يوم عاشوراء بنية قضاء يوم من رمضان.
أجاب الشيخ محمد المنجد حفظه الله على موقع الإسلام سؤال وجواب أن هذه المسألة تعرف عند أهل العلم بمسألة التشريك أو التداخل بين العبادات، ولها صور كثيرة، منها هذه الصورة، وهي الجمع بين الواجب والمستحب بنية واحدة، فمن نوى المستحب لم يجزه عن الواجب، فمن صام بنية عاشوراء لم يجزه عن قضاء رمضان، ومن نوى قضاء رمضان وأوقعه في يوم عاشوراء، صح قضاؤه، ويُرجى أن ينال ثواب عاشوراء عند بعض أهل العلم.
وقال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله – في فتاوى الصيام: “من صام يوم عرفة، أو يوم عاشوراء وعليه قضاء من رمضان فصيامه صحيح، لكن لو نوى أن يصوم هذا اليوم عن قضاء
رمضان حصل له الأجران: أجر يوم عرفة، وأجر يوم عاشوراء مع أجر القضاء”

*مراتب صوم عاشوراء:*
ذكر الشيخ بن عثيمين – رحمه الله – في سلسلة لقاءات الباب المفتوح، أن صيام عاشوراء له أربع مراتب:
*المرتبة الأولى:* أن يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر، وهذا أعلى المراتب.
لما رواه أحمد في المسند: «صوموا يوماً قبله ويوماً بعده خالفوا اليهود»
ولأن الإنسان إذا صام الثلاثة أيام
حصل على فضيلة صيام ثلاثة أيام من الشهر.
*المرتبة الثانية:* أن يصوم التاسع والعاشر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) لما قيل له: إن اليهود كانوا يصومون اليوم العاشر، وكان يحب مخالفة اليهود، بل مخالفة كل كافر.
*المرتبة الثالثة:* أن يصوم العاشر مع الحادي عشر.
*المرتبة الرابعة:* أن يصوم العاشر وحده، فمن العلماء من قال: إنه مباح
ومنهم من قال: إنه يكره.
فمن قال إنه مباح استدل بعموم قول النبي عليه الصلاة والسلام حين سُئِلَ عن صوم يوم عاشوراء فقال:
(أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها)، ولم يذكر التاسع.
ومن قال إنه يكره قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده)، وفي لفظ آخر: (صوموا يوماً بعده ويوماً قبله)، وهذا يقتضي وجوب إضافة يوم إليه من أجل المخالفة، أو على الأقل: كراهة إفراده.
والقول بالكراهة لإفراده قوي، ولهذا نرى أن الإنسان يخرج من هذا بأن يصوم التاسع قبله أو الحادي عشر.

*وأخيرًا يجدر بنا التنبيه على أن الناس في يوم عاشوراء كماذكر أهل العلم انقسموا إلى ثلاثة أقسام:*
*القسم الأول:* من جعله يومًا للفرح والسرور. وهم النواصب الذين يبغضون أهل البيت ويكرهونهم ويعادونهم وينصبون العداءَ لهم.

*والقسم الثاني:* من جعله يوم مأتم للحزن والكابة، والدعوة بالويل والثبور، ولطم الخدود، وشق الجيوب والصراخ، والعويل، وضرب الجسد بالحديد والسيوف وإراقة الدماء. وهم الروافض.

*والقسم الثالث:* مشوا على ما شَرَّعهُ لهم نبيهم الكريم عليه الصلاة والسلام، وهم: “أهل السنة والجماعة”
فقاموا بصيامه فقط ولم يجعلوه يوم عيد ولا يوم حزن وشؤم كما فعل أهل الضلال.

*وفي الختام:* تأملوا – أيها الأحبه – تصرم الأيام، وسرعة انقضائها، فقبل أيام كنا نستقبل شهر رمضان، ثم ما أسرع أن انقضى، ثم استقبلنا عشر ذي الحجة ويوم عرفة ثم ما أسرع  انقضائها، وها نحنُ قد استقبلنا شهر الله المحرَّم، وبعد أيام نستقبل يوم عاشوراء، فالبدار البدار قبل فوات الآوان وإلزام النفس على الطاعة والعبادة فإن الدنيا أيام قلائل.

اللهم ثبتنا على الإيمان والعمل الصالح وأحينا حياة طيبة وألحقنا بالصالحين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *