تقلبات الحياة

الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار،‏ مبدّل الأحوال من حالٍ إلى حال، ومقلب القلوب والأبصار، ومثبت عباده المتقين الأبرار.

والصلاة والسلام على سيد الأبرار نبينا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار .

أما بعد..

فالحياة مليئة بالمواقف، مليئة بالأحداث، مليئة بالتغيرات، مليئة بالتقلبات، وكأنها بحر متلاطم، وشلالات متدفقة، تتجدد كل ساعة، وتتمدد كل لحظة!

في لحظة واحدة كفيلة بتغير مجرى حياتك إلى الأفضل أو العكس.

فقد ترمي بك الظروف أحيانا بين طرقات المتاعب والألم، لتتعلم درسًا بأن التغير هو ركيزة من ركائز الحياة الأساسية، فمهما كانت أمنياتك، أحلامك، رغباتك، مخططاتك، ترتيباتك، الحياة قد تنقلب عليك وتتغير في لحظة:
بمكالمة هاتفية…!
فقد قريب…!
مرض…!
خطوة خاطئة..!
حادث مروري…!
شجار مع شخص…!
نتيجة تحليل أو فحوصات…!
وغيرها من مفاجآت الحياة.

يقول الشاعر:
‏‎لاتأمَنَنّ مِن الزمان تَقلُّبًا
إنّ الزمانَ بأهلِه يتقلّبُ

هذه هي حقيقة الحياة الدنيا التي جعل الله تعالى من أبرز خصائصها التقلب والاضطراب، فهي لاتستقر بالإنسان على حال، ولاتدوم له على قرار، بل شأنها التغير من حالٍ إلى حال، والأيام كما قيل: دول، والدهر قُلَّب، يوم لك ويوم عليك، واللَّيَالي حُبَالى مُثْقَلات يَلِدْنَ كلَّ جديد.

فلاتعشق الدنيا أُخَيَّ فإنما
يُرى عاشقُ الدنيا بجُهدِ بلاءِ
**********
حلاوتها ممزوجة بمرارةٍ
وراحتها ممزوجةٌ بعناءِ
**********
وماالدهر يومًا واحدًا في اختلافه
وما كلُّ أيامِ الفتى بسواءِ

وأنا في إعداد هذه المقالة، وصلتني هذه القصة من أحد الإخوة الأفاضل، وهي بعنوان: “كُسِرتْ رِجْلهْ فقط” وكانت قصة مؤلمة لم تكن من وحي صاحبها أو خياله، بل كانت قصة واقعية، مليئة بالدروس والعبر، أبدع في سردها بأسلوب ماتع ومشوق، ولولا خوف الإطالة لذكرتها كاملة، لكني اختصرتها بتصرف وحسبي من القلادة ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم.

يقول صاحبها: “كنت خارجاً من المسجد بعد صلاة العصر، ووطئتُ على طوبة فاختل توازن جسمي؛ فسقطت فانكسرت قدمي، وبعد الذهاب إلى المستشفى وعمل الأشعة تم تشخيص الحالة على أنها كسر في قاعدة المشطية الخامسة.

يقول: في مساء نفس اليوم وبعد العودة إلى البيت بدأت تتكشف لي حقائق ما كنت ألحظها ولا ألقي لها اهتماماً كثيراً، بدأتُ أكتشف أهمية قدمي للمرة الأولى في حياتي، وعظيم ما تُقدمه لي من خدمات؛ وما تقوم به من أدوار لم أشعر بها قبل اليوم.!

دخول الحمام، الوضوء، الصلاة، قضاء الحاجة، صارت مهام تحتاج إلى ترتيبات خيالية، وصعوبات بالغة.

لا أستطيع المكوث بمفردي في البيت
أحتاج من يقوم على خدمتي ورعايتي.

لأول مرة أستوعب مشاعر من أقعده المرض، ومشاعر كبار السن، وأتخيل من يعيش وحده؛ وتتوقف حياته حتى يأتي من يخدمه ويساعده ويرعاه، لم أكن أتخيل أبدًا أهمية وخطورة قدمي لهذا الحد، فمجرد تعطل قدمي تعطلت حياتي كلها وتبدلت تماما، طوبةصغيرة تحت قدمي بدلت برنامج حياتي كله..!

يقول: ثم شعرت بألم في رجلي التي بها الكسر، فأسرعت إلى المستشفى وبعد عمل الفحص تم تشخيص الحالة بأنها ( جلطة ) في الأوردة العميقة.

تم حجزي بالمستشفى، ونتيجة لنوبة سعال أصابتني فقد حصل شك في أن الجلطة وصلت للرئة، فتم نقلي للعناية المركزة.

يقول: بدأ شريط حياتي يمر أمام عيني، وسيطر على خاطري، هي النعم الكثيرة التي كنت أرفل فيها عندما كنت في حياة عادية، والندم على التفريط في كثير من الوقت الذي يضيع لا أقول أنه في معصية، ولكن بدون فائدة أخروية تنفعني يوم القيامة.

ثم يهمس في ختام قصته بقوله: قرأتُ كثيرا عن ضعف الإنسان، وذلته، وهزيمته أمام بعض الأحداث، ولكن لم أعاين هذا الضعف كاليوم، إصابة بسيطة يترتب عليها سلسلة تداعيات لا تنتهي”

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ
فَلَا يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
************
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتَهَا دُوَلٌ
مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
************
وَهَذِهِ الدَّارُ لَا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ
وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَانُ

تأملوا معي هذه القصة ومافيها من العبر وأن الإنسان قد تتقلب عليه الحياة في لحظة، وقد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة.

فحقيقة الدنيا الفانية، أنها لاتبقى على وتيرة واحدة، ولاتعطي الأمان لأي إنسان، وليس بينها وبين أحد محسوبية.

قال تعالى في وصفها: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. [يونس:٢٤] إن هذا التصوير البديع في الآية يُجَلِّي لنا حقيقةَ الدنيا، كي لايُصبِح الإنسان عبدًا لها، يرضى بها، ويقف عندها، تستهويه خُضْرتُها، ويُؤْثِرُهَا على نعيم الآخرة، ولايتطلَّع منها إلى ما هو أكرم وأبقى.

وما الدُّنيا بباقيةٍ لحيٍّ
وما حيٌّ على الدُّنيا بباقِ

ويحسن بنا في هذا المقام أن نعود إلى الوراء قليلًا لنتذكر حالة الرعب والهلع التي عاشها الناس، وإجتاحت العالم بسبب انتشار فيروس كورونا؟! سيحفظ التاريخ أن فيروس كورونا غير العالم أكثر مما فعلته الحروب والمجاعات، وأن هذا الفيروس الذي اجتاح ـ بداية الأمر – مدينة (ووهان) الصينية أصبح عابرًا للجغرافيا، متحديًا لغطرسة الدول وجبروتها، وأرغم العالم على التوقف والانعزال وإغلاق حدوده، وتعطلت قواعد الديمقراطية ووُضِعَتْ جَانِبًا، وتم اللُّجُوء إلى قوانين الطوارئ والحجر، وتقييد الحريات العامة والشخصية.

وحين انتشر الفيروس، سقطت أعتى دول العالم في براثنه، واستفاق العالم على خطر لايمكن تجاهله، أو إغلاق الأبواب أمامه؛ ليسارع الجميع بحثا عن حلول وملاذات آمنة.

‏فجائعُ الدّهرِ أنواعٌ مُنوَّعةٌ
ولِلزّمانِ مٙسٙرّاتٌ وأحزانُ

هذه التغيرات واستحالة دوام الحال من سنن الله الكونية، ولو تأمل الإنسان في نفسه لاعتبر واتعظ؛ فهو منذ أن يخرج إلى هذه الحياة في تَغَيُّرٍ دائمٍ، من طفولة إلى شباب، ومن شباب إلى كهولة، ومن كهولة إلى شيخوخة، ثم إلى فَنَاء، وهو في هذه المراحل والأطوال ينتقل من صحة إلى مرض، ومن قوة إلى ضعف، ومن قدرة إلى عجز، ومن كمال إلى نقص، ومن سرور إلى حزن، ومن سِلْمٍ إلى حرب، ومن أمنٍ إلى خوف، والله – سبحانه – قادر على أن يخلقنا بدون الحاجة إلى هذا الإنتقال والتدرج، فلا نكون في قوة بين ضعفين، ولا قدرة بين عجزين، ولا كمال بين نقصين، ولكن سنته- سبحانه -اقتضت هذا التدرج والإنتقال من حال إلى حال، وله – سبحانه – الحكمة فيما قضى، فسبحان مقلّب الأحوال الذي لايتغير.

وأخيرًا: إن من أعظم مايُواجهُ به المؤمن تغيرات الحياة وتقلباتها، ويحصِّل به الطمأنينة، أن يلجأ إلى خالقه، وأن يلوذ به – سبحانه- فإنَّ الأمور كلَّها بيده، وإليه يُرجع الأمر كلُّه.

فهو في سيره إلى ربه في هذه الحياة، التى يقطع مراحلها، ويشهد تقلباتها، يحتاج إلى تأييد وعون وتثبيت من الله حتى يستطيع مواصلة السير في ثبات وقوة وأمان واستقرار، وأن يتجرَّد من حوله وقوَّته إلى حول الله وقوته، لأن العوائق والموانع كثيرة، والمثبطات والمؤثرات كثيرة، ومالم يتولاهُ الله برعايته ويحميه بعنايته بعد أن يُقبل عليه، ويبحث عن أسباب النجاة بين يديه، وإلا فإنه عرضة للانزلاق وللخطر والهلاك.

إِذَا لَمْ يِكُنْ عَوْنٌ مِنْ اللهِ لِلفَتَى
فأوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيهِ اجْتِهَادُهُ
************
وإِنْ كَانَ عَونُ اللهِ للعَبْدِ واصِلًا
تأَتَّى لَهُ مِنْ كُلِّ شَيءٍ مِدادُهُ

وفي الختام: هكذا هي الحياة الدنيا‏،‎ فينبغي أن نبادر، فإن الآفاتِ تَعْرِضُ، والموانعُ تَمْنَعُ، والموتُ لايُؤمَنُ، اليوم نُولد وغدًا نرحل، ‏اليوم نَفْقِد وغدًا نُفْقَد، اليوم نَدْفِن و غدًا نُدْفَن، ولايدوم إلى الله.

فنعوذ بالله من ريب الدهر، وتغير الأيام، وسوء المنقلب، نعوذ بالله من زوال النعمة، وذهاب العافية، نعوذ بالله من الشدة بعد الرخاء، ومن الحور بعد الكور، ومن خطوب الجديدين وصروف الزمان.

وَصَلِّ اللهُمَّ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

3 تعليق على “تقلبات الحياة

غير معروف

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحسنتم الإختيار والطرح…فسلمتم وسلمت الأنامل التي خطت هذه العظات والعبر المؤثرة التي تذرف لها العيون وتوجل لها القلوب ولذلك يجب أن نقيد نعم الله بالقيام بما يرضي الله والبعد عما يسخطه ويخالف دينه وشريعته فبالشكر تدوم النعم وبترك الشكر تزول النعم وتحل النقم.. كيف والله يقول:(وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) وهذا فيه بشارة لمن حفظ الله وأدى شكر هذه النعم وذلك بالقيام بما أ وجب الله والبعد عما حرم الله أما من جحد هذه النعم ولم يؤدي شكرها فإنه مستدرج وداخل تحت قوله تعالى: (سنستدرجهم من حيث لايعلمون وأملي لهم إن كيدي متين) فعن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

هاني

ما شاء الله و فقك الله إلى الأمام و بارك الله فيك

ناصر اليوسفي

أحسنت بارك الله فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *