لم تختر ذاتك ..

لقد تعجبت كثيراً من هذا الهيكل المخلوق من الطين ، كيف يفضل أن ينحدر إلى مادته الطينية دون أن يسمو بروحه التي نفخ الله فيها من روحه العلية ..
فعندما يختار هذا المخلوق – من ماء مهين كما وصفه المولى جل و علا – أن يتمرغ في أوحال مادته برغم أن الله كرمه و جعله في المرتبة العليا بين مخلوقاته التي بثها في هذا الكون ..

إنك أيها الانسان لم ترتقي إلى هذه المرتبة المتقدمة بين المخلوقات ، إلا لأن الله نفخ فيك من روحه و بوأك هذه المكانة حتى حسدك عليها إبليس ، و اختار الجحيم على أن يسجد لك ، فطرده الله من جنة عدن بسبب معصيته لخالقه و إكراماً لك .. و مع ذلك أطعته فترديت و أهنت نفسك العزيزة بعزة خالقك ..

عندما تسخر من بني جنسك الذي خلق من نفس الطين الذي سواك الله منه بفارق اللون أو بعض الفوارق الاجتماعية – و هي في ميزان الله ليست بذات أهمية – ، حتى لو حاول بعض قصار النظر أن يجعلوها هي الأهم في تعاملاتهم مع بعضهم ..

و لا أدري كيف يسوغ فانٍ لنفسه أن يسخر من فان ٍ مثله .. فهم في المرتبة الخلقية سواء (من نفس المادة مع تغير طفيف في اللون أو الشكل و الهيئة ) ، و هذا من حكمة خالقهم فهو أعلم باللون و الهيئة التي تصلح لكل واحد منهم ، قال تعالى : ( الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك) ..

و لو علم هذا المستهزء أنه يستهزأ بمن سواهم و خلقهم و يعيب من صنع فأتقن ماصنع .. لاستفظع عمله ذلك و خر باكياً ممرغاً وجهه في الرغام ، لعل الله أن ينظر إليه بعين الرحمة فيرحمه ..

كم و كم من الآيات و العبر في خلق هذا الكائن العجيب .. فكثير هم الذين يجهلون الحكمة من خلقهم بالصورة التي هم عليها ، فقد يكون مصدر هذا الجهل و عدم الدراية هو الغرور الذي طغى على العقول و الأنفس ، التي أبت إلا اختيار الهبوط و التسفل و الالتصاق بالأرض عن الرفعة و العلو و الرقي ..

و قد يكون الغرور بما عنده من مال و جاه أو غيره .. قال تعالى : ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) ، ثم يقول الله منبهاً كل من حاد عن الجادة ( إن إلى ربك الرجعى ) .. فتنبه أيها الغافل و السادر في الغي و الطغيان ..

و الله لا يوجد عاقل كامل العقل يختار التردي إلى أوحال السخرية على الارتقاء و الرفعة بالأخلاق الحسنة ، و لو فتشنا في علة أولئك فلا بد أن تظهر علتهم في احتقار الآخرين و عقد نمت في النفس مع مرور الأيام لأي سبب كان ، حتى أصبح ذلك خلق يلازمه ما لم يردعه رادع قوي يصعقه فينتبه من غفلته ..

فيا أيها الانسان الجهول ارفع رأسك عن الوحل و اسمو بخلقك فتسمو روحك ، و عندها تكون قد حملت بحق وسام قدمه لك خالقك ( و لقد كرمنا بني آدم ) ، و أعلم أنك لست الإبن الوحيد و الأوحد لأبيك آدم .. فكل البشر هم أخوتك بكل ألوانهم و أشكالهم و هيآتهم ..

فإن أبيت إلا التمادي بجهلك فلا نملك سوى أن نرثي لحالك لأنك إذن لمن الهالكين … نسأل الله السلامة .

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “لم تختر ذاتك ..

عبدالرحيم الصحفي

شكرا أخي أبو ليلى على هذا المقال المميز وشكرا لصحيفة غران

Abuammar Makkah

ماشاء الله تبارك الله.
مقال رائع.
العقلاء هم من يتبعون الحق ويعملون بالحكمة .. وقليل ماهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *