الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم، وصلى الله على سيد الخلق محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد :
فإن الله سبحانه -وتعالى- خلق كل شيء فقدره تقديرًا، جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا. أرسى في الكون سننًا، وأودع في الآفاق عبرًا، وجعل لعباده دلالات تدلهم عليه، وآيات توصلهم إليه؛ لكن الناس حين اعتادوا على هذه الآيات، وتكررت في دنياهم هذه الدلالات، لم يعد يؤثر فيهم اختلاف الجديدين وتقلبهما، ولم يتدبروا في توالي النيِّرين وتعاقبهما، فلم يقدروا لله قدره، ولم يتأملوا في آياته وأمره؛ إلا القليل منهم.
فسبحان مَنْ لا يقدرُ الخلقُ قدْرَه
ومن هو فوقَ العرشِ فردٌ مُوَحَّدُ
فالخسوف والكسوف آية من آيات الله، وهذه الآيات لا يُرسلها الله لنا عبثًا ولا سدى إنما يرسلها تخويفًا لعلنا نخاف، لعلنا نرجع ونعود، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: ٥٩]
قال سماحة شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز – رحمه الله- : “وما يقع من خسوف أو كسوف في الشمس والقمر ونحو ذلك مما يبتلي الله به عباده، هو تخويفٌ منه – سبحانه وتعالى – وتحذيرٌ لعباده من التمادي في الطغيان، وحثٌ لهم على الرجوع والإنابة إليه”
والمسلم الفطن لا يقف عند مجرد رصد هذه الظاهرة كظاهرة فلكية تعرف بالحساب في وقت الابتداء والانجلاء فحسب، وإنما يستثمر إعمال العقل في التفكر والتبصر في هذه الآيات، ليستلهم منها الدروس والعبر، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ [ق: ٣٧].
فمن الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أولًا: أن من مظاهر فزعه – عليه الصلاة والسلام – أنه لما كسفت الشمس على عهده فَزِع فزعًا شديدًا، قال أبو موسى – رضي الله عنه -:(خسفت الشمس فقام النبي فزعاً يخشى أن تكون الساعة فأتى المسجد فصلى بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ رأيته قط يفعله، وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته ولكن يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره ). [رواه البخاري ومسلم].
ثانيًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن من مظاهر فزعه – عليه الصلاة والسلام – وهو أعلم الناس بربه، أنه أخطأ فلبس رداء بعض نسائه، كما قالت أسماء – رضي الله عنها – :(فأخطأ بدرع حتى أُدرِك بردائه بعد ذلك). [رواه مسلم]
ثالثًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن من مظاهر فزعه – عليه الصلاة والسلام – إطالته الصلاة طولًا غير معهود، مع أنه يأمر بالتخفيف، قال جابر – رضي الله عنه – : (فأطال القيام حتى جعلوا يخرّون). [رواه مسلم].
وأكدت ذلك أسماء – رضي الله عنها – بقولها: (فأطال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – القيام جدًا حتى تجلاني الغَشْي، فأخذت قربة من ماء إلى جنبي فجعلت أصب على رأسي أو على وجهي من الماء). [رواه البخاري ومسلم].
ربعًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أنه تخويف من الله لعباده، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – صرح بذلك، فقال: (يخوف الله بهما عباده) لكن قد يكون هذا التخويف لعقوبة انعقدت أسبابها، ولهذا أمر الناس بالفزع إلى الصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والتكبير. كماذكر ذلك شيخنا الشيخ بن عثيمين – رحمه الله – .
خامسًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أنّ حكمةَ الله اقتضت أن العباد ما عملوا عملاً على خلاف شرع الله إلا وعاقبهم من العقوبات في الدنيا ما يكون فيه اعتبارهم، وما من عقوبةٍ إلا وبينها وبين المعصية تناسبًا ظاهرًا أو باطنًا.
سادسًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن هذه الآيات رسالة إلى كل عاص، إلى كل مقصر، إلى كل مضيع لأوآمر الله، أن لهذا الكون خالقًا مدبرًا حكيمًا لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون.
سابعًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن هناك من الأهوال ما هو أشد من الخسوف والكسوف والزلازل والبراكين، إنه الموت والسكرات والقبور الموحشات والصراط والميزان والحشر والنشر والوقوف بين يدي رب الأرض السماوات.
ثامنًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن في هذه الآيات رسالة أن كل ما في الكون خاضعاً لله خاشعاً له مُطيعاً لأوآمره جل في علاه، قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [الحج: ١٨].
تاسعًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أنها رسالة بأن كل شيء يتغير ويتحول ويزول إلا الله لا يتغير ولا يحول ولا يزول. ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ [القصص: ٨٨].
عاشرًا: من الدروس المستفادة من ظاهرة الخسوف والكسوف:
أن بالكسوف والخسوف يتبين فضل الله على عباده بهذين النيرين الشمس والقمر، فبهما تقوم مصالح العباد في معاشهم، ودنياهم، وقد امتن الله بذلك على عباده فقال – تعالى -:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).[القصص:٧١ -٧٣]
وفي الختام: إن مما تستدفع به الشرور والنكبات، ويحصل به الأمن من العقوبات، الفزع إلى الأعمال الصالحات؛ من دعاء وذكر وصلاة وعتاق وصدقة وتوبة حتى ينكشف ما بالناس، وينجلي عنهم الكسوف والخسوف: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:٣١]
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب