نعرِّب أو نترجم ؟!

امتدادًا للبحث الذي أعتزم تنفيذه عن اللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي ، وخلال بحثي وجدت مقالة قديمة للأستاذ الكبير “عباس محمود العقاد” بعنوان ( نعرِّب أو نترجم ) ، و التي تناولت التعريب و الترجمة و التي رأى العقاد أن مسألة الكلمات الأجنبية قديمة حديثة ، لم يخلُ منها عصر من عصور اللغة العربية … فقد تزيد كلمات التعريب أحيانًا و تزيد كلمات الترجمة أحيانًا أخرى ، و تجري الزيادة في هذه أو تلك حسب العوامل النفسية قبل غيرها ، و أهمها عوامل الثقة بالنفس و الاطمئنان إلى سلامة اللغة و قلة الخوف عليها من طغيان اللغات الأخرى .

ففي عصر الجاهلية مثلًا كان العرب يكثرون من التعريب من أسماء الجواهر و المواد و الأدوات و النباتات ، و من الأباريز و العطور ، و من الأكيسة و المأكولات و المشروبات ، و لا تقل عدتها عن ألوف ، و قلّما يخطر لنا اليوم أن نترجم اسم مدينة مشهورة و لو كان لهذا الاسم معنى ، و قلّما يخطر لنا كذلك أن نترجم اسم انسان مشهور و إن كان من الأسماء التي لها معانٍ في اللغة ؛ كاسم “جورج” و “ميخائيل” و “فيكتوريا” ، و إنما نعرِّبها بألفاظها مع صقلها بالصيغة المناسبة ؛ أي أن اللغة تركيب و سياق و ليست مفردات و مقاطع حروف ، و إنما تسمى الأشياء بأسمائها في بلادها.

و يستشهد العقاد ببيت للأعشى :
( و الناي نرم و بربط ذي غنة *** و الصنج يبكي شجوه أن يوضعا ) فالناي نرم ، و بالربط و الصنج ، كلمات أعجمية بألفاظها عرٌبها الشاعر و لم يترجمها ، و ربما استطاع أن يترجمها بما يقاربها لو أنه أراد.
و يشير العقاد هنا إلى ثقة العربي بلغته و خلو ذهنه من الخوف عليها ، و لعلي أشارك بنفس الثقة و لا يساورني الخوف أو الشك على اللغة ، و لا أشعر بتهديد مصيرها .

و حين انتشر العرب بعد الإسلام في بلاد العالم أخذوا في ضبط القواعد و تدوين المفردات فرجّحوا الترجمة على التعريب كلما تيسر نقل المعاني من اللغات الأخرى إلى الألفاظ العربية ؛ فعرّبوا مثلاً كلمة ( الموسيقى ) بلفظها اليوناني بغير تصرّف ، و كان في وسعهم أن يُسموها (فن النغم ) و عرّبوا كلمة ( الاصطرلاب ) و كان في وسعهم أن يُسموها ( مقياس النجوم ) … – هذا على سبيل المثال لا الحصر – و عرّبوا ( النوروز) و كان في وسعهم أن يسموه اليوم الجديد .

و يشير العقاد إلى أن الحذر من التعريب بدأ في العصر الحديث لأن الحذر على كيان البلاد العربية في وجودها القومي و حياتها السياسية و عقائدها الدينية و سائر مقوماتها في حاضرها و مصيرها، و كلها من المقومات التي تتصل باللغة و لا تنفصل عنها … ففي هذا العهد الأخير تجمّعت على البلاد العربية أخطار الاستعمار و أخطار الجهل و الاستسهال ، فاشتدت دعوة المحافظة على القديم حتى بلغت غايتها من الشدة و أوشكت أن تخرج بالتطرف إلى الإفراط ، ثم أذنت بالتحول كما يتحوّل كل شيء بلغ الغاية من مداه ، و اتفق في الوقت نفسه أن كفة الحرية رجحت على كفة الخضوع و المهانة ، فعادت الثقة إلى النفوس و عادت معها قدرة التصرف دون مغالاة في الحذر أو الاطمئنان .

كان خصوم التعريب ينكرون أن تعرّب كلمة (الهيدروجين) و يقترحون فيما اقترحوه أن تترجم بكلمة ( الممية ) من أماه الشيء يميهه إماهه ، أي جعله ماء على هذا التصريف ، و فاتهم أن الكلمة اليونانية لم يضعها اليونان الأقدمون و إنما استعارها الإفرنج المحدثون للاصطلاح العلمي مع إمكانهم أن يؤدوا معناها بلغاتهم الحديثة ، لولا اتقاء اللبس بين اسم العنصر و بين معنى الكلمة المطروقة على ألسنة الناس.

و يرى العقاد أن الحذر من التعريب كله يخف شيئًا فشيئًا على حسب نصيبنا من التقدم و الثقة و حرية التصرّف في جميع الأحوال ، و لكننا لانريد أن نترك هذا الحذر مرةً واحدة أو نفتح أبواب التعريب على جميع المصاريع … فإنما الخير كل الخير أن نتحوَّل عن الحذر من التعريب إلى الحذر من الإفراط في التعريب ، فلا نعرّب من المصطلحات العلمية أو الفنية إلا ماكان من قبيل الأعلام التي لا تقبل الترجمة أو قبيل الرموز التي تُنحت منها الكلمات و لا تقبل النقل إلى حروفنا العربية ، و هي كثيرة في علوم الطب و الكيمياء على الخصوص ، قليلة فيما عداها من العلوم و إن كانت قلة يحسب لها حسابها في جميع اللغات.

و النهج السوي عند العقاد تفضيل الترجمة مادامت مستطاعة سائغة ، فإن تعذّرت فلا حرج من التعريب على قدر الحاجة إليه ، بغير إفراط و لا استرسال .

و نحسب أن بداهة اللغة العربية من قديمها إلى حديثها تملي علينا جواب هذا السؤال : هل نترجم أو نعرّب أو نكتفي بما عندنا فلا ترجمة ولا تعريب ؟

و جواب اللغة بلسان بداهتها الأصلية أن المعاني تترجم ، و أن الأعلام و ماهو من قبيلها تعرّب ، وأن هذا التعريب ضرورة ملازمة قد لازمت اللغة العربية منذ نشأتها ، و لا خوف عليها منه في حدوده الصالحة ، لأن البنية التحتية هي التي تستطيع أن تُلحق بتركيبها المتين كل غذاءٍ مفيد.

زينب الجغثمي 

مقالات سابقة للكاتب

8 تعليق على “نعرِّب أو نترجم ؟!

مروان

مقال رائع واختيار موفق .
وآراء صائبة .

Majdi9654

وهنا يخط من جديد قلم المبدعة الاستاذة/ زينب لكي تبدع وتتميز بمقالاتها
فهي للتميز عنوان ..
وللقلم شموخ .. وللمشاعر إبداع
ويبقى التميزفي الكتابة كباقة أزهار فواحة
تملأ المكان بأريج جمال الإبداع
فهنيئا لصحيفة غران بهذه الكاتبة المتميزة

عون السلولي

لا عدمنا مثل هذه الأقلام الفاخرة الأصيلة ، التي مدادها الصدق والاعتزاز بلغتها ودينها ..

منى سالم

مقالة رائعة ????

سامي الحربي

مقال جميل وربي يوفقك لما فيه خير لكِ وللناس اجمعين

حسين الطويرقي

ما شاء الله ..
أجدت أستاذة زينب فيما كتبت ..
فقد أتيت لنا بالمفيد ?

متعب

رأيي أن نعرب لا نترجم
المصطلحات يجب أن تبقى كما هي لأن ترجمتها إما أن لا تكون دقيقة أو تكن شاذة غير مستساغة
فالأفضل أن تبقى على ماهي عليه وتنطق كما هي ولا بأس أن تكتب بحروف عربية

محمد الرايقي

من أراد أن يرى جمال اللغة
في مفرداتها ومعانيها وترابط أفكارها وسلاسة نطقها
فليقرأ هذه المقالة .
نشكرك كاتبنا المميزة على هذا الطرح الراقي
الذي ناقشتي فيه فكرة التعريب والترجمة
ومن وجهة نظري أن لكليهما مميزات وعيوب
ولكن الجهد الكبير يقع على مجامع اللغة العربية
لتسهيل هذا الأمر .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *