أمانة الفكر …

إن الله سبحانه و تعالى عندما خلق بني آدم و نفخ فيه من روحه ، و ليجعله فوق كل المخلوقات جعل له عقل و فكر يتدبر به خلقه أولاً ، ثم ما يدور حوله من معطيات و هبات سخرها الله له … فيجب أن يعي الإنسان هذا الأمر و يضعة نصب عينيه في جميع الأمور …

هذا العقل و الفكر أمانة ائتمن الله عليها العباد ، فيجب الحفاظ عليها و استعمالها في كل ما هو خير و نفع له و للمحيطين به … و مادام الأمر كذلك فكيف ينحدر هذا الإنسان بفكره إلى مرتبة دون مرتبة الإنسانية و لو بقدر ضئيل حينما يسلم نفسه إلى دعاة الرذيلة ، و الذين لا همَّ لديهم سوى اصطياد الضعفاء و المنهزمين و عباد الشهوات ، و الذين لا همَّ لهم في الحياة سوى النوم و الكسل دون المثابرة ليوجههوهم حيثما أرادوا و كيفما شاءوا ..

هنا نربأ بالشباب الذين تبني الأمة عليهم الآمال العراض عن وضع أفكارهم و عقولهم التي وهبهم الله إياها في أيدي الخفافيش الذين يعملون في ظلمات الكهوف و السراديب المشبوهة … “و من كان الغراب له دليلاً .. يمر به على جيف الكلاب” ..

و الثقة بالنفس من أرقى ما يتطلع إليه الانسان السوي القوي بإيمانه ، ثم نفسه التي ائتمنه الله عليها بكل كيانها الفكري و الجسدي و ما تحويه النفس من شعور و أحاسيس … فعندما ينخرط الشباب في الرياضة – على سبيل المثال لا الحصر – ، و هي شيء جميل لتقوية الجسد و تنمية العقل ، و لكن عندما يفقد هذا الانسان توازنه في تشجيع فريق من الفرق الرياضية ثم يتعصب لهذا الفريق تعصباً يؤدي به إلى إنزال نفسه منزلة قد تصل به إلى منزلة الوحوش الضواري ، و إطلاق العنان للغضب و عدم تحكيم العقل و الفكر الذي يصل به إلى ارتكاب أشد أنواع المحظور من قذف و سب ، و الولوج رويداً رويداً إلى العنصرية و التلفظ بكلمات ، لو تريث قليلاً لوجدها من المحرمات التي حرمها الله تعالى على عباده ..

و أيضاً على النقيض من ذلك عندما يعتقد الشباب أن كل ما يدور في المجتمع هو فاسد و يجب تغييره بالعنف و تسليم فكره و نفسه إلى دعاة الضلال الذين يحاولون أن يتخذونهم مطية إلى غاياتهم المريبة و مآربهم المشبوهة و يغسلون عقولهم أو بالأحرى يدنسون عقولهم بأفكار و معتقدات تؤدي بهم إلى ما لا يحمد عقباه ثم الندم حين لا ينفع الندم ..

و من جهة أخرى هناك الآفات و السموم التي تغيب الفكر و العقل و تجعل الشباب خاملاً لا نفع منه ، بل تحمل الدولة أعباء بناء مصحات و مستشفيات لعلاج هؤلاء المدمنين ، فلقد كان من باب أولى لو لم يدخل الشاب نفسه في هذه المتاهة ، أن تبنى مراكز خدمات يستفيد منها المجتمع بأسره بدلاً من بناء مصحات ، فليفقه الشاب هذه النقطة و يضعها نصب عينيه فسيرى الفرق و المنفعة واضحة جلية …

فنحن نرى و نسمع كل يوم من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان و تشمئز منه الأنفس السليمة الخالية من الشبه ، و نستغرب كيف وصل الأمر إلى هذا الحد بهؤلاء الذين تربوا في بيئة معتدلة و آباء و أمهات متميزون في أخلاقهم و تعاملاتهم و يشهد لهم المجتمع برجاحة عقولهم و حكمتهم ، و لكن لن نيأس أبداً و سنظل نعمل و نستعين بالله و نستمد منه العون…

نعم نحن ندرك أن هناك من يترصد بالشباب و الفتيات .. أولئك الذين يكمنون لهم في الظلام ليتخطفوهم من بين أحضان مجتمعهم و يقحموهم في أتون الجاهلية و ظلمات الأفكار المنحرفة سواء إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار كما يقال و كلا الإتجاهين تطرف و غلو … فهل هذا ما يجب أن تكون عليه المجتمعات الراقية التي تريد أن تصل بالإنسانية إلى المراتب العليا ؟! .. حيث بوئها الله مكانة مرموقة بين مخلوقاته حتى تعبده حق عبادته ، و أن تبني نفسها و أمتها لتصل إلى أعلى درجات الرقي و تعيش في هذا الكوكب بسلام مع من يشاركها العيش فيه ..

المجتمع يهتم كثيراً بالأمن الاقتصادي و السياسي و الغذائي و لا ضير في ذلك .. و لكن لا يمكن أن تتم هذه الأمور إلا إذا وضعنا الأمن الفكري و كل ما يتعلق به من عقائد و توجهات في المرتبة الأولى ، إذا ما أردنا أن تنجح المجتمعات في سوى ذلك .. و في الحقيقة أنه لا يمكن المضي قدماً إلا إذا وضعنا الأمن الفكري في أول السلم ليكون الصعود أكثر سهولة ..

و ما نلاحظه في هذه الآونة من تكثيف للجهود في سبيل التوعية بلزوم الحرص على الأمن الفكري ، إلا لأن الأمور قد تفاقمت و استشعر المربون و العاملون في هذه المجالات من الأخطار التي باتت تعصف بأفكار الشباب ، و مواجهة من أخذوا على عاتقهم و أقسموا كما أقسم قائدهم إبليس أمام الله أن يضل الناس .. كذلك هم أتباعه و جنوده و هي معركة قائمة منذ الأزل إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .. فيجب على كل من أراد الخروج بالأمة من دياجير التيه و الظلمات إلى النور أن يعلم أن المعركة لا هوادة فيها و لا لين ، و أن النصر دائماً للمخلصين كما وعد الله عباده …

نعم يجب تضافر الجهود و نضمها في سلك واحد قوي بقوة الله و عونه ، ما بين البيت و الأسرة أولاً فعلينا نحن الآباء جهود مضاعفة لأننا و بكل بساطة أمناء على أبنائنا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( كلكم راعي و كلكم مسؤول عن رعيته) ، و ثانياً المدرسة فهي المنزل الثاني للشباب و الشابات و نسأل الله أن يعين و يوفق المعلمين في ذلك ، فإنهم يحملون عبئاً ثقيلاً على عواتقهم ، و أيضاً الأندية يجب أن تتحمل كذلك مسؤوليتها فليس فقط أن تهتم هذه الأندية ببنية الشاب دون فكره ، بل أولاً يجب أن تبني الفكر إن أرادت أن تبني شباباً كاملاً فكرياً و جسدياً .. فيجب علينا عدم التواكل و الاعتماد على الاّخر فنحن كما نقول دائماً في سفينة واحدة تعصف بها الرياح الهوجاء من كل جانب و لن ينجو أحد إذا غرقت لا سمح الله ، و يجب أن نبحر بها سوياً متكاتفين متعاضدين لنصل بها إلى شاطئ الأمان بإذن الله تعالى و توفيقة ..

ختاماً .. نسأل الله أن يحفظ أمتنا بحفظه و يسدد خطانا و أن يجمع علينا شملنا و يجعلنا من المخلصين في أقوالنا و أفعالنا و أن يحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا و يعصم شبابنا و فتياتنا من كل سوء و زلل ، و أن يلهمنا رشدنا و يحقق لنا الآمال و ما نصبو إليه من رفعة مجتمعاتنا و أوطاننا .. و صلى الله على سيدنا و حبيبنا محمد و على آله وصحبه و سلم .

إبراهيم يحيى أبو ليلى

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *