وفي العُلا رأيتُ ما لم أره من قبل! (2)

د. يوسف العارف

ومع كل هذا الزخم من الذكريات المعاصرة راحت بي الأفكار إلى الماضي البعيد حيث تتجلى روعة التاريخ عندما يعيد نفسه فالماضي البعيد يشير إلى أن العلا أرض الحضارات بدءاً بالحضارة (الدادانية) ثم (اللحيانية) ثم (النبطية) ثم (الرومانية) ثم الوصول إلى الحضارة الإسلامية وما يتبع تلك الحضارات من لغة ومسميات وثقافة.

اليوم نراه شاهداً جديداً على تنامي وتقارب الحضارات فمن كان يصدق أن ابن العلا اليوم يتحدث بهذه اللغة (nelofarpark نيلوفر بارك) ويتفاعل مع هذا الواقع الجديد بكل إنسانية وانسجام وانخراط في ركب الحضارة الذي تستقبله العلا وأهاليها أحسن استقبال!!

خطرت في بالي هذه الخواطر التاريخية والمعاصرة وأنا أشاهد أبناء العلا يتعاطون مع هذا الواقع الجديد بكل أريحية وانسجام وتفاعل حضاري!!

وبينما أنا مستغرق في رحلة تاريخية عبر الذاكرة الماضوية، شعرت بلكزة صديقي المجاور والمشارك معنا في هذه السهرة والضيافة الماتعة والفاخرة في نفس الآن فانتبهت فإذا بي أمام حاضر رائع وجميل فالموقع الذي نحن فيه الآن كان أحد بساتين النخيل المنتشرة في العلا ولكنه تحول إلى مشروع استثماري سياحي/ ومنتزهاً فاخراً ومطعماً يقدم وجباته عن طريق البوفيه ولجميع الوجبات (الإفطار والغداء والعشاء) وأماكن جلوس ترفيهية تحت ظلال النخيل الوارفة وممرات جمالية وإضاءات مخملية، تجعل الشعر يتوالد في هذا الموقع البديع فكانت هذه القصيدة الشعرية التي بدأت هناك مساء الاثنين 13/4 وانتهت هنا في جدة مساء يوم الاثنين 26/4/1444هـ وأقول فيها:

وصلنا (للعلا).. فانثال شعري
أتانا في (المطار) ليلتقينا
بشاشة وجهه تنسيك جهداً
و(سلطان القنيدي) كان بدراً
فآوونا لأرض ذات نخلٍ
وأما اليوم أضحت ذات وسم
(
نيلوفر بارك) ياااا الله عليها
و(مطعم) فائق الخدمات ليلاً
يحقق للسياحة مبتغاها
فشكراً (يا أبا فيصل) وشكراً

 

لـ(إبراهيم) يزجي الفاتحات
ويسبغ فضله عند الثقات
تنامى حيث هم الطائرات
يشع ضياءه بالذكريات
تذكرنا العهود الماضيات
(
خواجيُّ) المسمَّى والسمات
حدائق باذخات وارفات
وفي (الإصباح) تلقى الطيبات
ويرفع (للعلا) سهم الحياة
و(يا سلطان) نلت المكرمات!!

وانتصف المساء، وحان وقت المبيت والمنام فاختار لنا الزملاء دارة التربوي المتقاعد الأستاذ إبراهيم البدير الذي أعدها كوحدات سكنية/ شقق مفروشة مجهزة بكل ما تحتاجه هذه المشاريع الاستثمارية في بلد سياحي يحتاج الكثير والكثير من هذه الشقق الفندقية، ولكنه – حتى الآن – لم يحصل على الموافقات الرسمية لأن الهيئة الملكية لتطوير العلا لديها أجندات ومخططات تطويرية لم تعلن عنها بعد!! وإن غداً لناظره قريب!!

(إبراهيم البدير) شخصية تربوية/ اجتماعية/ مثقفة واعية لديه من الكنوز المعرفية ما يشدك إليه إذا تحدث أو ناقش أو أسهم في حوارات معرفية، فتح شقته العلوية للزملاء والأصدقاء والزوار ليكون ديوانية أو صالون ثقافةٍ يعج بالحوارات والمنتديات والسهرات البريئة. سهرنا عنده ذات ليلة من ليالي هذه الزيارة برفقة مديري التعليم وضيوف العلا:

الأستاذ محمد فرج بخيت مدير تعليم ينبع (السابق).

الدكتور محمد إبراهيم الزاحمي مدير تعليم القنفذة.

الأستاذ هاشم علي الحياني مدير تعليم محايل عسير (السابق).

الدكتور سعد الرفاعي الشاعر والناقد والتربوي.

الأستاذ أحمد النزاوي التربوي المتقاعد.

ودار السجال والنقاش الأخوي والحميمي حول الأدب (الأيروتيكي) وفضاءاته المتعددة في ثقافتنا العربية وكان مضيفنا الأستاذ (إبراهيم البدير) المتحدث الرئيس الذي أضفى البهجة والبسمة والبساطة والمتعة والفائدة والجمال (جمال الروح – وجمال الحديث – وجمال الموضوع) المسكوت عنه في كثير من مجالسنا الأدبية!!

(إبراهيم البدير) شكل لي إضافة جديدة على المستوى الشخصي بأفكاره الاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية فهو شخص يألف ويؤلف عشت معه أياماً ثلاثة كأنها زمن طويل من المعرفة والتآخي والصداقة، فشكراً للظروف التي جمعتني به، وعرفتني عليه.

(4) وبعد ليلة هانئة، في سكنٍ دافئ، أصبحنا صباح الثلاثاء 14/4 لنجد مضيفنا الأستاذ إبراهيم القاضي عند النزل الذي بتنا فيه ينتظرنا لجولة صباحية بدأناها بالإفطار في نفس المنتزه (نيلوفر بارك) ثم جولة داخل أحياء العلا القديمة والحديثة، ثم ودعنا مضيفنا متجهاً للمطار لاستقبال الضيوف القادمين من ينبع والمدينة وعسير وجدة، ثم الاستعداد للأمسية التكريمية مساء هذا اليوم الثلاثاء 14/4، وتركني بصحبة الأخ الأستاذ (إبراهيم البدير) ليأخذنا في جولة سياحية فزرنا قلعة موسى بن نصير المشرفة على الديرة القديمة، وفندق (آراك العلا) أول فندق سياحي أنشئ في العلا وكان مقر إقامتي في الزيارة الأولى ولكنه اليوم أصبح مقراً للهيئة الملكية لتطوير العلا، وقد لاحظت أثناء هذه الجولة التغيير والتطوير الكبير في الديرة القديمة، حيث الطرقات الواسعة والأرصفة المتجددة والبعد عن حدود الديرة القديمة، والترميم الشامل لهذه البلدة الأثرية التي أذكر أنها من “منجزات القرن السابع الهجري وتمثل ثالث المدن الإسلامية التي تعود لهذا القرن وأولها فاس بالمغرب وثانيها طليطلة بأسبانيا!! [انظر كتابنا في آفاق النص التاريخي ص ص 388-389]. واشتهرت بـ (الطنطورة) أي الساعة الشمسية أو (المزولة) التي يتحدد بواسطتها دخول موسم الشتاء (22 ديسمبر)، وتوزيع مياه العيون على المزارعين، ومعرفة مواقع النجوم والكواكب”.

ثم واصلنا الجولة الصباحية متجهين إلى جبل الفيل على بعد سبعة كيلومترات تقريباً إلى جهة الشرق من العلا ووجدناه قد دخل في حقبة سياحية وتطويرية جديدة غير ما شاهدناه في الزيارات السابقة، فقد أصبح معلماً سياحياً صحراوياً، ووجهة ساحرة في الليل تحت ضوء النجوم، أو نهاراً يعكس ألوان الشمس في الظهيرة أو عند الغروب، وقد صُمم سياحياً ليستقبل الزوار السائحين على جلسات أرضية محيطة بهذا المعلم السياحي ومقاهٍ ومطاعم عصرية!! وربما حفلات موسيقية وغنائية، وحاولنا دخوله لكن رجال الأمن اعتذروا لنا لأن الوقت مبكر جداً حوالي الساعة العاشرة صباحاً وهو لا يفتح للزوار إلا مع الساعة الرابعة عصراً…

كان رفيقي ودليلي الأستاذ إبراهيم البدير يحدثني عن (العلا) وأهلها، عن جمالها وتاريخها، عن معالمها وتطوراتها حديث الخبير المحب والعالم النجيب والمفكر العميق والأديب الشاعر، وصاحب النكتة المعبرة والمضحكة والمفيدة في نفس الآن!!

ومن جبل الفيل عدنا إلى بدايات طريق الحجر ومدائن صالح ولأنها تحتاج إلى أذونات مسبقة للدخول إلى آثارها المعروفة، اكتفينا بالوقوف عند أول الطريق حيث منتجع شرعان المرتقب، ومسرح المرايا (الموعودون بدخوله غداً إن شاء الله) وواحة عشار التي أخذت حقها من التطوير السياحي.

ثم عاد بنا الدليل إلى العلا ونخيلها وجبالها عائدين إلى حيث النزل الذي نسكن فيه عبر الطريق الدائري الجديد الذي يحيط بالعلا من جهة الجبال الشرقية وهي الجبال المطلة على مزارع النخيل الممتدة على طول الوادي.

وعند النزل التقينا الزملاء القادمين من ينبع بطريق البر وهم الأستاذ محمد فرج بخيت المدير الأسبق لتعليم ينبع، والدكتور سعد الرفاعي الناقد والشاعر والتربوي، والشيخ أحمد النزاوي وبعد استراحة قصيرة أدينا فيها صلاتي الظهر والعصر جمعاً وقصراً توجهناً إلى حيث مأدبة الغداء العامرة في منتزه (نيلوفر بارك)، وسعدنا بلقاء الأحبة من منسوبي التعليم في حوارات شعرية وأدبية وذكريات تعليمية وتربوية، ثم عدنا للنزل حيث الاستراحة حتى موعد الحفل في تمام الساعة الثامنة مساءً.

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *