لاَ تَقَاعُدَ فِي الإسْلاَمِ

يعد هذا التاريخ ٧/١ من كل عام موعدًا لتقاعد بعض الموظفين؛ وليس معنى ذلك النهاية للحياة العملية؛ بل هو في حقيقته نهاية للحياة الوظيفية؛ وبداية فعلية للحياة الجدية ــ خارج نطاق الوظيفة ــ ومما يؤسف له أن بعضًا من المتقاعدين ينظرون للحياة ــ بعد مغادرة الوظيفة والإحالة على التقاعد ــ نظرة شؤم وخوف، يطلق عليها بعض ضعاف النفوس والمنهزمين نفسيًا في هذه الحياة لفظ «مُتْ وأنْتَ قَاعِدْ»، ليكون لهذا اللفظ رنينًا لصوت اليأس في قلوب بعض الموظفين؛ عسكريين كانوا أو مدنيين.

وليس بغريب أن يتقدم أي مسؤول ــ عسكريًا كان أو مدنيًا ــ بطلب التقاعد المبكر من العمل المنوط به؛ فها هو معالي وزير الحج والأوقاف السابق الأستاذ/ حسين عرب يتقدم للملك فيصل ــ رحمهما الله ــ بطلب إعفائه من منصب الوزارة، فجاءت الموافقة بناءً على طلبه، فكتب قصيدة رائعةً بعنوان «الوزارة» يقول فيها:
تقاعدت عن عبء الوزارة راغبًا
وغادرتها من قبل سن التقاعد
وما استكبرت نفسي بلمع بريقها
وما الكبر من طبع العقول الرواشد
ومن أنا؟ إن أكبرت نفسي بمنصب
كبيرٍ، أعاني منه كل الشدائد
ومن يحمل العبء الكبير أمانة
فهمته الكبرى بلوغ المقاصد
وقد صنت أخلاقي وأرضيت خالقي
وحسبي منها ذاك، والله شاهدي
سيبقى وفائي في بلادي وأمتي
ويبقى ولائي في مليكي وقائدي

إن الإسلام يقتضي للعبد أن يعمل مدى الحياة وألا يتوقف؛ لأن العمل عبادة، وقد قال تعالى: ﴿وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99] أي: الموت.

وهنالك مفاهيم خاطئة عن التقاعد من أبرزها:
١- انقطاع الرزق: فيظن بعض من المتقاعدين، بأن الرزق معلق بالوظيفة فقط، فإذا تركها انتهى رزقه ودنا أجله، وهذا يعد من المفاهيم الخاطئة، التي يتشبث بها البعض، وقد ثبت من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّ النّبي ﷺ قال : «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق، أن يطلبه بمعصية الله، فإنّ الله تعالى لا ينال ما عنده إلّا بطاعته».

٢- فقد الاحترام والتقدير: يشعر بعض المتقاعدين بفقد الاحترام والتقدير بسبب تقاعده وتقدمه في السن، وينسى بأن الاحترام والتقدير أمر مأمور به في شريعتنا الغراء، فقد ثبت من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النّبي ﷺ قال : «إن من إجلال الله إكرام ذا الشيبة المسلم».

فأنت أيها المتقاعد لك شرفك ومنزلتك، وإن فقدت منصبك ورتبتك، لأنّك مقدم في المجالس، وفي الحديث، وفي الشراب والطعام، وحتى في أمور الدّين إذا كنت ومن معك في درجة واحدة من العلم.

٣- فقد زملاء العمل: لن يفقد المتقاعد زملاءه، بسبب تركه لوظيفته أبدًا؛ إن كانت بينهم محبة في الله حقًا، فتجدهم يتزاورون، ويتفقد بعضهم بعضًا بالسؤال والاتصال، أما إذا لم تكن المحبة في الله إنما هي من أجل المنصب أو لمصلحة دنيوية، فسرعان ما تزول، سواءً أثناء العمل أو بعده، والمحبة أوثق عرى الإيمان كما ثبت من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه عن النّبي ﷺ قال : «إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله».

٤- الشعور بالوحدة واليأس: فنجد بعضًا من المتقاعدين، يشعرون باليأس والوحدة، وأنهم قد أصبحوا عالة على غيرهم، فدب اليأس والقنوط في قلوبهم، وهذه ليست من صفات المسلم القوي الإيمان بالله عزَّ وجل، قال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ﴾ [يوسف: 87].

أما المسلم، فصبورٌ مؤمنٌ بوعد الله تعالى، لا يجد اليأس والوحدة إلى قلبه سبيلًا؛ وقد قيل: «لا يأس مع الحياة»:
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه
لا تيأسن فإنّ الفــارج الله

وهناك سؤال يطرح نفسه في محافل تكريم المتقاعدين، ماذا بعد التقاعد؟! فأجيب عنه من خلال النقاط التالية:

أولًا: التفرغ للعبادة: امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب﴾ [الشرح: 7-8] .
قال الإمام ابن كثير : (أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطًا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة).

أخي المتقاعد إن فرغت من عملك ووظيفتك، وتقاعدت منهما، فإنّ أمامك عمل لا تقاعد منه، وهو الذي خلقت من أجله قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]: ومعنى يعبدون: أي يوحدون.
أما والله لو علم الأنامُ
لما خلقوا لما هجعوا وناموا
مماتٌ ثم حشرٌ ثم نشرٌ
فتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ
ليومِ الحشرِ قد عملتْ أناسٌ
فصلوا مـن مهابته وصاموا
ونحن إذا أمـرنا أو نهينا
كأهل الكهف أيقاظ نيامُ

ثانيًا: العمل والتكسب: فقد حث الشرع على مواصلة العمل والتكسب قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
وقال عزَّ وجل: ﴿وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشًا﴾ [النبأ: 11] .
وفي هذه الآيات حث للمؤمنين على السعي لكسب رزقهم وإغناء أنفسهم، وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أنّ النّبي ﷺ قال : «إنّ أطيب ما أكلتم من كسبكم».

فينبغي للمتقاعد أن يسعى لطلب الرزق والمعيشة، بالتجارة أو الالتحاق بالقطاع الخاص، أو التكسب بالمهن التي يجيدها مثل الزراعة أو الميكانيكا أو الكهرباء أو غيرها.

ثالثًا: القيام بالواجبات الأسرية: قد لا يجد الإنسان متسعًا أثناء العمل الوظيفي للقيام بالواجبات الأسرية على الوجه الأكمل، ولكنه بعد التقاعد يجد متنفسًا للقيام بحقوق الأسرة المسؤول عنها أمام الله عزَّ وجل ويكون ذلك بالاهتمام بأمور الأبناء والزوجة والبيت، ولا يتركها للسائقين والخدم.

رابعًا: التفرغ للكتابة والقراءة:
فإن أمتع شيء ينشغل به المتقاعد، هو القراءة والكتابة، فيشغل وقته تارةً بقراءة الكتب العلميّة، المنسوجة على نهج السّلف الصالح، وتارة يشغل وقته بكتابة البحوث والرسائل والمقالات، لرفع همته العلميّة والثّقافية.

خامسًا: ممارسة بعض الهوايات: من الأمور التي ينبغي للمتقاعد إدراكها بعد تركه للوظيفة؛ ممارسة بعض هواياته التي كان يحب أن يمارسها أثناء العمل، مثل القراءة والكتابة واستخدام الحاسب، والرّياضة كالسباحة والرماية والقنص وغيرها.

وهناك بعض المحاذير ينبغي للمتقاعد أن يتنبه لها:
١- الفراغ القاتل: فتجد بعض المتقاعدين يشعر بفراغ كبير في حياته اليومية بعد تركه للعمل، بسبب عدم تعويد النفس على بعض الأعمال الحرة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه : (إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا لا في أمر دنياه، ولا في أمر آخرته).

فعلى المتقاعد أن يستفيد من فراغه بما يعود عليه بالنفع والفائدة، ويجعل نصب عينيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النّبي ﷺ قال: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ».

٢- العجز والكسل: إن العجز والكسل داءان، سببهما الغفلة وعدم الاهتداء، يقودان الإنسان إلى القعود وترك العمل، ولذلك نجد أن من دعاء النّبي ﷺ: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل».
وعاجز الرّأي مضياعٌ لفرصته
إن فاته الأمر يومًا عاتب القدرا

٣- جلساء السوء: وهم أهل الفراغِ حقيقةً، فتجدهم ينتقلون من مقهى إلى آخر، ويجلسون في الطرقات، يراقبون الناس، فيحشرون أنفسهم فيما لا يعنيهم، فينبغي للمتقاعد أن يحذر من مجالستهم؛ فربما أدوا به إلى أمرٍ لا تحمد عقباهُ.

٤- التصابي والمراهقة: فتجد بعض المتقاعدين إذا بلغوا الخمسين أو الستين، يقومون ببعض أعمال الصبيان والمراهقين، فينبغي لهم النظر إلى معالي الأمور، والاجتهاد في العبادة، وترك التصابي ونذكرهم بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبي ﷺ قال : «أعذر الله تعالى إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة».
فدع الصبا فلقد عداك زمـانه
وازهد فعمرك مرّ منه الأطيبُ
ذهب الشَّباب فما له من عودة
وأتى المشيب فأيـن منه المهربُ

٥- التعدد بلا موجب: فنجد بعض المتقاعدين، لا يحلو لهم التعدد؛ إلّا بعد بلوغ سن التقاعد، ويعللون ذلك بأن الوظيفة عن ثلاث زوجات، وبعد تقاعدهم أصبح الواحد منهم بزوجة واحدة، وهذا في نظره يعد من العيب والنقصان، فيبحث عن فتاة ليقترن بها دون موجب شرعي فيهضم حق زوجته الأولى، وحق الزوجة التي يريد أن يقترن بها، دون شعور، حيث إنه قد بلغ من السن مبلغًا لا يستطيع معه الوفاء بحق الزوجتين، فيحرم نفسه السعادة الزّوجية، فليته فكر في التّعدد أيام شبابه إن كان لديه سببٌ يدعوه لذلك:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب
والدهر فيــه تغــير وتقــلّب
نثــرت ذوائبــها التي تزهــو بها
سودًا ورأسك كالثـّـغامة أشيبُ

وأختم هذه المقالة بنصيحة للإمام ابن الجوزي المتوفى (سنة597هـ) رحمه الله تعالى  للمتقاعدين في كتابه «صيد الخاطر» (ص 330) حيث يقول ما نصه: (وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء، فإنّ اتفق معه صاحبة دين قبل ذلك، فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها تارةً بالإنفاق، وتارةً بحسن الخلق، وليزدد في تعريفها أحوال الصالحات والزّاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذمّ الدّنيا).

 

خالد بن محمد الأنصاري

 

مقالات سابقة للكاتب

4 تعليق على “لاَ تَقَاعُدَ فِي الإسْلاَمِ

هاجر

تشكر ا/ خالد .. على اختيارك أدق الموضيع المجتمعية ومناقشتها بأسلوب راقي ووضع الحلول والخطط العلاجية للقضاء على المفاهيم الخاطئة لهذا الفترة الحساسه من العمر وتوجيها التوجيه الأمثل حسب الدليل الإسلامي العظيم
واحب ان اضيف قصة كانت هي سنه حسنه وبصمه مميزة للمسلمين عامة وللخليفة الثالث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خاصة حيث :
أول من سن راتب التقاعد هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما مر يوماً في سوق المدينة المنورة و رأي شيخا كبيرا يسأل الناس ويتسول طالبا المساعدة ! فاقترب منه الفاروق وسأله من أنت يا شيخ ؟؟ فقال الشيخ الكبير : أنا يهودي عجوز أسأل الناس الصدقة لأفي لكم بالجزية ..ولانفق الباقي على عيالي ..؟ فقال عمر متألماً: ما أنصفناك يا شيخ .. أخذنا منك الجزية شابا ثم ضيعناك شيخا .. ؟؟ فقام عمر و أمسك الخليفة عمر بيد ذلك اليهودي وأخذه إلى بيته و أطعمة مما يأكل .. و أرسل إلى خازن بیت المال و قال له : أفرض لهذا و أمثاله ما يغنيه و يغني عياله ..فخصص له راتبا شهريا يكفيه و يكفي عياله من بيت مال المسلمين و أوقف عنه الجزية إلى الأبد ..

أبو أحمد

جزاكم الله خيرا شيخي الفاضل على التذكير بما يجب على المتقاعد ونصحه فهذه الكلمات الرائعة بلسم جرح جعل الله ذلك في ميزان حسناتكم بارك الله في عمركم وعملكم وأوقاتكم

ماريا نضال

جزاك ربي خيراً على التنبيه.

هاجر

جزاك الله خير الجزاء استاذنا : على اختيارك أدق الموضيع المجتمعية ومناقشتها بأسلوب راقي ووضع الحلول والخطط العلاجية للقضاء على المفاهيم الخاطئة لهذا الفترة الحساسه من العمر وتوجيها التوجيه الأمثل ولكن من وجهة نظري المتواضعة * ان التخطيط للتقاعد ليس للموظفين فقط … وانما هو للفترة زمنية تمر على كل شخص سوء كان فقيرا او غنيا ذكر او انثا وهى مرحلة تسبق سن التقاعد او التقاعد المبكر بمراحل وهذا ما يوضحه قوله صلى الله عليه وسليم ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناءكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِكَ وحياتَكَ قبلَ موتِكَ)) ولكن ارتبط في اذهان البشرية مرحلة التقاعد وحساسية هذه المرحلة .. حسنا وليكن هذا المفهم .. لذلك نبدأ سوياً طريق لدعوة لإعادة التخطيط الجيد للحياة قبل فوت الأوان .. مع فايق تقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *