يُحكى عن نبي الله نوح عليه السلام: أنه جاءه ملَك الموت ليتوفاه بعد أكثر من ألف سنة فسأله: كيف وجدت الدنيا؟ فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
دار ممر لا دار مستقر.
لم يغب الموت عنها يوماً، يصبحنا فيها ويمسينا.
يجندل الأحبة يمنةً ويسرة.
يقترب منا كثيراً حتى يكاد يلامس أطراف أعناقنا، ثم يبتعد قليلاً لكنه لا يغيب.
يصرخ إن اتعظوا ، أفيقوا من غفلتكم، اعملوا لآخرتكم، استعدوا للرحيل.
وكفى بالموت واعظاً.
والموتُ حقٌ ولكن ليس كل فتىً … يُبكى عليه إِذا يعروه فقدانُ
الوجد على قدر الفقد.
والألم على قدر المصاب.
رحل عثمان .. رحل صاحب المكرمات.
فبكاه البعيد قبل القريب ونعاه الصغير والكبير.
هذه ليست مقالة رثاء، فالمصاب أكبر من أن تستوعبه عبارات الرثاء.
والحزن أكبر من أن تحتويه الصدور فضلاً عن السطور.
لكنها محاولة لتسليط الضوء على جوانب مضيئة من حياة المرحوم تستحق أن نقتدي بها ونقتفي أثرها.
منذو عرفته والآخرة نصب عينيه، يسعى في الدنيا كما نسعى لكن همه الآخرة وتفكيره في ما بعد الموت.
وكثيراً ما كان يردد: كم بنعيش؟ ما بقي في العمر آكثر مما مضى.
كان يعمل لآخرته.
فلما رحل ماذا ترك ؟ لكي نعتبر ونقتدي ..
ترك المساجد التي سعى في بنائها.
لم يكن صاحب ثروة ولا مال كثير ولكن بإخلاصه وجاهه وسعيه لدى أهل الخير شيد عدداً من المساجد على أفضل طراز.
رحل وترك مسجده القريب الذي استقر فيه آخر عمره مؤذناً وخادماً له.
رحل فافتقدنا صوته في الأذان يشنف الآذان ويدعو أن حي على الصلاة حي على الفلاح.
رحل فترك مصحفه الذي كان لا يفارقه آناء الليل وأطراف النهار تلاوةً وحفظاً وتحفيظاً.
رحل وترك سفرة رمضان التي كان يقيمها للصائمين كل عام يأوي إليها العامل والفقير وابن السبيل، يجهزها ويقوم عليها بنفسه.
رحل وترك خلفه بيوتاً بناها لأرامل وأيتام يدعون له ليل نهار.
رحل وترك بيوتاً كان يساعد أهلها بالطعام والشراب لم تتكشف إلا بعد وفاته، لم يكن أحدٌ يعلم عنها.
كان يتفقد رواد مسجده من الغرباء ويجلس معهم ويسألهم عن أحوالهم، فيساعد المحتاج ويؤوي الغريب.
كان من أوائل أول من حمل لواء الوعظ والإرشاد في غران، يدعو إلى الله ويعظ ويذكر الناس ويأتي بالدعاة ويستضيفهم، فانتشر الوعي وأقبل الناس على المساجد، وانتشر الخير.
كان رحمه الله أول المبادرين إلى الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان بالمسجد الحرام ولم نكن نتعود على ذلك من قبل، ثم تبعه العشرات بعد ذلك وإلى اليوم.
كان حريصاً على صلة الرحم وإصلاح ذات البين، محبوباً بين أهله وجيرانه وزملائه وطلابه وكل من عرفه.
لين العريكة، سهل الجانب، ليناً، محبًا لكل الناس.
وما هذا الا غيض من فيض مما عرفنا عنه (رحمه الله) وما لم نعرف كثير، فلم يكن يتحدث عن أعماله، ولا يجاهر بها.
لقد رحل لأن هذه سنة الحياة، لكن ترك من خلفه سيرةً عطرة تفوح بأزكى العطور.
بكاه الجميع يوم وفاته.
وتوافد الناس لعزائه من كل مكان.
وشهد له الجميع بالخير والصلاح.
فهنيئا له بذلك.
وبعد ..
فهذا نموذج معاصر حتى لا نقول إن الزمان غير الزمان، والناس غير الناس !
فماذا يحول بيننا وبين أن نعمل مثلما عمل؟!
إنها الإرادة فقط !
وما ذلك بعسير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم استعان بالله وتوكل عليه.
محمد صالح المزروعي
مقالات سابقة للكاتب