قراءة نقدية لكتاب عسفان وبئرها التاريخية

د. يوسف العارف

(1) كثيراً ما مررت بـ/ (عسفان) المدينة/ أو الضاحية القريبة من جدة إلى الشمال الشرقي في طريقي إلى (خليص) أو المدينة المنورة.. فتبدو لي أرضاً زراعية، ومدينة ناشئةً عمرانياً وتمدناً حضارياً دالاً على نهضة عصرية منتظرة.

تدهشني قلعتها الآثارية التي جُدِّدت ورُمِمت وأُضِيئت وعُمِل حولها حديقة تجذب المتنزهين وأصبحت مستراحا للمسافرين، ولاهتماماتي التاريخية والآثارية حرصت على زيارتها والصعود إليها برفقة الزميل الأستاذ مشعل الحارثي، ووقفت على معالمها التي تحتاج إلى مقالة خاصة وأعتقد أني أشرت إليها في إحدى دراساتي القديمة.

(2) واليوم أستعيد هذه الذاكرة المثقوبة وأنا أطالع كتاباً (تاريخ/ أثري) عن هذه الضاحية/ المدينة وقد صدر عام 1442هـ عن وزارة الثقافة، التراث الوطني لمؤلفه  بدر ستير اللحياني وقد أهدانيه الزميل أحمد عناية الله الصحفي رئيس اللجنة الثقافية بخليص.

والكتاب دراسة أثرية ميدانية لأحد وأهم معالم (عسفان) وهي (بئر التفلة) التي يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب منها وبارك ماءها بشيء من ريقه نفثه فيها. وتطورات الدراسة لتشمل الآبار المحيطة بها والمنطقة الحاضنة لها وبقايا المنشآت الأثرية حولها.

وبتصفح الكتاب اتضح لنا أنه كتاب منهجي يتبع طرائق وأساليب الكتب الآثارية من حيث إجراءات المسوح الميدانية والتوثيق التصويري والاستعانة بالمقاسات والأبعاد والرسوم الهندسية وجمع العينات الفخارية وتدوين الملحوظات، والمقارنة مع ما تقوله المصادر والمراجع التاريخية حول هذا الموقع إن تراثية كانت أو معاصرة. وهذه قمة المناهج العلمية والدراسات الآثارية والأساليب البحثية وفي ذلك دلالة كبيرة على ما يمتلكه هذا الباحث من جلد وصبر وإخلاص للمعرفة واستكناه لآلياتها الإجرائية.

بدأ الكتاب بفصل تمهيدي أوضح فيه الباحث الجغرافية (العسفانية) وما يتعلق بها تاريخياً. وكان من اللافت للقارئ/ الناقد أن يقف على منافذ معرفية جديدة توصل إليها الباحث لتحديد المكان وحوادث الزمان المتعلقة بهذه المنطقة وأثريتها وتاريخها الممتد في عمق الزمن واستمرارها حتى هذا العصر السعودي الزاهر.  

على أن أجمل ماوقفت عليه – كقارئ ناقد – ذلك التمرحل التسلسلي لتاريخ المنطقة منذ العصور القديمة وعبر العصور الوسيطة، وعصور ما قبل الإسلام ثم عسفان في صدر الإسلام وما تلاه من عصور راشدية وأموية وعباسية مستفيداً في ذلك من المصادر التاريخية كالواقدي وابن هشام والفاكهي والأزرقي والطبري والمسعودي وغيرهم وهذه من أمهات كتب التاريخ، وكذلك الاستفادة مما دونه الرحالة الذين كتبوا مشاهداتهم ورحلاتهم إلى هذه المنطقة ومعالمها وكل ذلك في الصفحات [37-52].

ثم ينتقل المؤلف إلى الجزء الأثري/ الآثاري في هذه المنطقة (عسفان) ويفرد له الفصل الثاني، وعلى الصفحات [55-99] ويركز فيه على البئر المعروفة بـ/ بئر النقلة التي تناقلها الناس والتاريخ على أنها من الآبار التي مر بها رسول الهدى والرحمة وله فيها أثر كريم لكن الباحث هنا يتوسع للبحث عن هذه البئر وغيرها من معالم أثرية كالآبار الأخرى والسوق الأثرية، والقلعة العثمانية ودرب الحاج التجاري.

ولكن أجمل ما وقفت عليه هنا، دور المؤلف/ الباحث في مناقشة الرواية المنتشرة عن تفلة رسول الله صلى الله عل يه وسلم في تلك البئر فتبارك ماؤها واستشفى به جمع من الناس على مر العصور التاريخية. ولكنه يتوقف عن تصحيح أو تخطئة هذه الرواية ويكتفي بسردها لكنه يختم المسألة [ص 62] بقوله:

“لقد اكتسبت هذه البئر اهتماماً خاصاً بفضل مرور الرسول صلى الله عليه وسلم عدة مرات من خلال الغزوات النبوية أو أثناء أداء الحج والعمرة.. ولا شك أن كل المواطن النبوية هي بالنسبة للمسلمين مواطن عظيمة تستحق التأمل…” وكأنه هنا يتبنى مقولة القائلين بتفلة الرسول الأعظم فيها وبركة مائها!! مع إن لمشايخنا وعلمائنا في السعودية رأي آخر يعارض هذه المسألة وينفيها ولكنه لم يوردها أو يناقشها وهذا من المآخذ العلمية والموضوعية والمنهجية والبحثية!!

على أنه يشير في الصفحة [٧١] إلى أنه تم التواصل مع مدير مكتب الشؤون الإسلامية بمحافظة الجموم وسأله عن الإجراء الشرعي عبر رسائل مكتوبة وموثقة فأجاب المسؤول أنه لا توجد “إشكالات شرعية عن زيارات غير مشروعة لهذه البئر” وهذا – في نظري النقدي – خلاف ما تراه هيئة كبار العلماء ومفتي البلاد السعودية حول هذه البئر الذي وجدته في المدونات الشرعية في الشبكة العنكبوتية!!

ثم ينتقل المؤلف/ الباحث في هذا الفصل إلى الوصف المعماري لهذه البئر ويحدد موقعها من عسفان ويقارن بين ما كانت عليه في الدراسات التاريخية السابقة وبين ما هي عليه الآن، ثم يتحدث عن الآبار الأربعة المحيطة بهذه البئر وعلاقتها ببئر التفلة، ثم يتحدث عن سوق عسفان التاريخي، وقلعة عسفان العثمانية، ثم يشير إلى المعثورات الأثرية من الفخاريات التي تحتاج إلى دراسة تخصصية كما يقول [ص90]. ثم يشير إلى الدرب التجاري.

والجميل في هذا الفصل أن المؤلف لم يكتف بسرد المعلومات الآثارية والتحليلات الهندسية وإنما أشفع ذلك كله بالصور التوضيحية والتوثيقية، فالصورة – كما يقولون – أبلغ تعبير من كثير من الكلام. فنجد صورة البئر، وصورة السوق، وصور الفخاريات المعثور عليها وصور الحوانيت وغيرها مما يمثل أهمية بصرية/ معلوماتية تفيد القارئ وتؤكد المعلومة!!

وإذا ما وصل القارئ/ الناقد إلى [ص92] يشعر أنه انتهى من الفصل الثاني، ويبحث عن علامة أو عنوان للفصل الثالث فلا يجد!! مع إن المؤلف أشار في المقدمة إلى أن هناك فصل ثالث بعنوان: المستقبل السياحي لعسفان [ص 23] ولكننا لم نجده، وكذلك لم نجده في فهرس الموضوعات ولعله نسيان أو سبق قلم أو خطأ مطبعي ويستدركه الباحث/ المؤلف في الطبعات القادمة إن شاء الله.

ومما يؤكد هذه النتيجة [النقدية] أن المؤلف يبدأ الصفحة [93] بحديث عن الواقع المعاصر لمدينة عسفان وأنها على ملتقى طرق تجارية، وأن الحكومة السعودية اهتمت بها وأن القلعة العثمانية رُممت ويمكن استثمارها سياحياً إلى آخر ذلك مما يشير إلى أن القارئ قد وصل فعلاً إلى الفصل الثالث عن المستقبل السياحي، ولكنه سطور وصفحات قليلة بلا عنوان ولا تفي بالموضوع الكبير والمهم فعلاً في سياق هذا الكتاب.

ومما يلفت النظر النقدي ما جاء في [ص 94-95] إذ يتحدث المؤلف عن العمق التاريخي الإسلامي لمنطقة عسفان!! وأعتقد أن هذا ليس مكانها وإنما يمكن إضافتها إلى الجزء التاريخي في أول الكتاب في الصفحات [37-48].

وأخيراً نصل إلى الخاتمة [ص 103-  ] والتوصيات [106-105] ثم قائمة المصادر والمراجع ص ص [109-107] ثم فهرس الصور ص ص [113-110].

وفي ذلك كله أسجل إعجابي بما جاء من توصيات آمل من المسؤولين عن السياحة والآثار ومديري البلديات والشؤون الدينية الاضطلاع بتنفيذها والاهتمام بها كونها أتت من رجل خبير ونتيجة عمل مسحي وآثاري وتاريخي جدير بالتبني وعدم التقصير!!

وعلى أية حال: فالكتاب الذي تحدثنا عنه ودرسناه نقدياً وتعريفياً جدير بالاقتناء والإفادة مما فيه من معلومات فهو يتحدث عن جزء غال من بلادنا (محافظة عسفان) وما فيها من آثار حرية بالتطوير والتنمية لسياحة محلية جاذبة ومفيدة علمياً وتاريخياً واقتصادياً.

شكراً للكاتب/ المؤلف/ الباحث. وشكراً لمن أهداني هذا الكتاب الذي استمتعت بقراءته والمداخلة معه والتعليق عليه.

والحمد لله رب العالمين

جدة 23-24/8/1442هـ

رابط تحميل الكتاب : عسفان وبرها التاريخية

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “قراءة نقدية لكتاب عسفان وبئرها التاريخية

أبو عابد

سئل سماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
السؤال:
يوجد في عسفان بئر تسمى التفلة وهي بئر قديمة يقال أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند مروره بعسفان مر على هذه البئر فتفل فيها فنبع منها الماء، وكان الناس قديما يردون إليها ويشربون منها ولا يعتقدون فيها شيئا .. وفي الآونة الأخيرة نشر في الصحف وعبر الانترنت أنها تفلة الرسول صلى الله عليه وسلم وبدأ الناس يتوافدون إليها ويتبركون بمائها , يشربون منه ويغتسلون به. فهل ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؟ وإذا ثبت ذلك هل يجوز التبرك بمائها؟
الجواب:
يا أخي ما يقال عن بئر التفلة فهذه كلها أكاذيب و أباطيل وأمور يتعلق بها المخرفون ودعاة الغلو في الدين الذين يرغبون العوام في جنس الأشياء فيقولون هذه بئر تفل فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولو درست الحال لوجدت هذه فرية لا أصل لها ولا صحة لها ولا معول عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *