إن أسئلة المرءِ تدلّ على همّه وموضِع فِكره.. وقد سأل الصحابة يومًا النبي صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله، أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟” فنزل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
الآن وقد نِلنا الإجابة دون سعي وفِكر وسؤال، فلنقف مع الدعاء بعض الوقفات:
* حقيقة الدعاء: الدعاء لغةً باختصار هو “الطلب”، وشرعًا هو أن نطلب من الله. والدعاء في القرآن الكريم إما يُراد به (دعاء مسألة) أو (دعاء عبادة) أو يشملهما.
ودعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي أو طلب دفع ما يضره، وهو المعنى المتبادر للذهن عند ورود الكلمة، وأما دعاء العبادة فهو كل العبادات المشروعة، وذلك أن المراد منها هو التوصل إلى مرضاة الله، فهذا هو ما يطلبه المرء منها بلسان حاله، أما دعاء المسألة فطلبٌ بلسان مقاله، “فكل دعاء عبادة مُستلزِم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة مُتضمنٌ لدعاء العبادة”.
إن المتعبِد لله ستقوده عبادته -دعاء العبادة- لممارسة عبادة الدعاء -دعاء المسألة-، والممارس لعبادة الدعاء -دعاء المسألة- أتى بعبادة من العبادات -دعاء العبادة-، فهما متلازمان.
* من أوقات إجابة الدعاء: ما نحن فيه من شهر رمضان ولا سيما لياليه العشر الفاضلة وليلة القدر فيه على وجه الخصوص، ولا تُدرك إلا بالاجتهاد في العشر كلها. وكذلك جاءت النصوص بذكر: يوم لجمعة، وجوف الليل، وبين الأذان والإقامة، ودُبر الصلوات المكتوبة. وكذلك من مظانّ الإجابة: عند نزول المطر، وشرب زمزم وحال الحج والعمرة، وعند التعارّ من الليل، وغيرها.
* من أهم شروط إجابة الدعاء: الإخلاص لله تعالى وإرادة وجهه، لا رياءً ولا سمعة – ألا يكون فيه اعتداء – ألا يكون الداعي آكلًا للمال الحرام – أن يكون الداعي موقِنًا بالإجابة لا مجرِّبًا.
* من صفات عظمة الله التي ينبغي أن يستحضرها الداعي:
١- العُلو والقُرب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
فالله تعالى هو “الرقيب الشهيد، المطلع على السر وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فهو قريب أيضًا من داعيه، بالإجابة… والقُرب نوعان: قُرب بعلمه من كل خلقه، وقُرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.” .
وقُربه جلّ وعلا قُربٌ يليق بجلاله وعظمته، وليس قُرب مكان؛ لأنه سبحانه وتعالى فوق كل شيء، فوق السماوات السبع، مستوٍ على عرشه، ولكنه مع عُلُوه العظيم قريب، فهو قريب في عُلوه بعيدٌ في دُنوِّه.
٢- الكرم والفضل والعدل: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
“الله عز وجل يجيب دعوة المضطر ولو كان كافرًا، حتى الكافر إذا اضطر ودعا الله أجابه سبحانه وتعالى”.
فحال الاضطرار يُخرج المرء فيه حقيقة التذلل والخضوع لله ويُظهر في دعائه الضعف والحاجة؛ فيناله كرم الله تعالى.
٣- القدرة والعطاء والكمال عمومًا: ففي الحديث النبوي: (الدعاء هو العبادة) أي أنه من العبادة، فـ”الإنسان إذا دعا ربه فقد اعترف لله عز وجل بالكمال وإجابة الدعاء، وأنه على كل شيء قدير، وأن العطاء أحب إليه من المنع، ثم هو لم يلجأ إلى غيره، لم يدعُ غير الله لا ملَكًا ولا نبيًا ولا وليًا ولا قريبًا ولا بعيدًا، وهذا هو حقيقة العبادة، وبذلك نعرف أنك إذا دعوت الله أُثبت على هذا الدعاء سواء استجيب لك أم لا”.
فما دام الدعاء عبادة فلماذا لا نُكثر منه؟
= هذه بعض الصفات، وباب الدعاء عمومًا مرتبطٌ بباب معرفة الله تعالى، فـ”كلما عظمت معرفة العبد بالله، وقويت صلته به كان دعاؤه له أعظم، وانكساره بين يديه أشد. ولهذا كان أنبياء الله ورسله أعظم الناس تحقيقًا للدعاء، وقيامًا به في شؤونهم كلها، وقد أثنى الله عز وجل عليهم بذلك في القرآن وذكر جملةً من أدعيتهم في أحوال متعددة”.
فتأمل في ختمتك دعاء: أيوب ويونس وإبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى، وغيرهم، عليهم الصلاة والسلام، وتعلّم من أدبهم وعباراتهم وحالهم أثناء سؤال الله وطلبه.
والطرف المضاد لعظمة الله هو ما عليه العبد من الضعف، فيُحبذ للداعي أيضًا أن يذكر حاله من الفقر والحاجة إلى الله، وكلا الأمرين حاضران في أدعية النبيين لـمَن تأمل.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه “الوابل الصيب”(ص٢٢٥): “الدعاء الذي يتقدَّمه الذكر والثناء -على الله تعالى- أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرّد، فإن انضاف إلى ذلك إخبارُ العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل؛ فإنه يكون قد توسّل إلى الـمَدعُوّ بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرّض بل صرّح بشدة حاجته وضرورته، وفقره ومسكنته”.
* ماذا عن سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء)؟ “لأن في السجود كمالَ الخضوع لله عز وجل لأنك تضع أشرف أعضائك -وجهك- وأعلى أعضائك في الأسفل، وفي موضع الأقدام تعظيمًا للرب عز وجل”.
فكيف بخشوعك وخضوعك أثناء الدعاء؛ إذا استحضرتَ أنك تسأل أعظم العظماء وأقدرهم وأكملهم وأنت على أذلّ هيئة تكونها؛ له وحده جلّ وعزّ؟
* من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأدعيته:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر أدعيته، فورد عنه أنه إذا دعا دعا ثلاثًا، وكان عليه الصلاة والسلام يحب الجوامع من الدعاء، فأدعيته قليلة الكلمات كثيرة المعاني، مثل:
١- (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) فشمل الدنيا والآخرة.
٢- (اللهم إني أسألك الهدى والتُقى والعفاف والغنى) فالهدى هدى علم وهدى عمل، والتقوى اسم جامع لما أمر الله، فهو سؤال الله التوفيق لفعل المأمورات وترك المنهيات، والعفاف يشمل ترك الزنا بكل أنواعه، زنا البصر واللمس وغيرهما، والغنى بمعنى سؤاله الاستغناء عما في أيدي الناس كان مالًا أو غيره.
٣- (اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافِني، وارزقني) أما المغفرة والرحمة فمن جميع الذنوب والآثار المستوجبة لمختلف العقوبات، وكذلك يرجوه الهداية بنوعَيها، هداية العلم والبيان وهداية التوفيق والرشد. وأما سؤاله العافية فيسأله المعافاة من أمراض الأبدان التي لا تخفى، وأمراض القلوب كالشرك والشك والحسد وغيرها. ويسأله رزق الأبدان من الطعام والشراب واللباس وغيرها، وكذلك رزق القلوب من العلم النافع والعمل الصالح.
٤- (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي -أو التي فيها معادي- واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر) فبدأ بالدين الذي هو معتصم المؤمن الذي يعصمه من الشر والفتن، وذلك بإخلاصه لله ومتابعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سأل صلاح المعاش وهو الدنيا، واستخدم التعبير بالمعاش دلالة على حقيقة الدنيا وأنها مجرد معاش لا قرار، ولأَجَلٍ معدود لا ممدود، ثم سأل صلاح الآخرة بمعنى الطلب من الله أن يُنجّيه من عذاب النار وأن يُدخله الجنة. ثم تابع الدعاء بجعل الحياة زيادةً في الخير والموت حين يأتي أن يكون راحةً من كل شر، وذلك لأن الإنسان قد يُعمّر ولكن ينتكس أو لا يزداد من الخيرات، فكان في هذا الدعاء طلب أفضل الحالين: طلب الازدياد من الخيرات كلها أثناء الحياة، وطلب درك الراحة بالتوفيق للموت في الوقت المناسب.
٥- (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجُبن والهَرَم، والبُخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) “.
العجز عدم القدرة، والكسل عدم الإرادة، وذلك أن الإنسان إذا لم يفعل فإما لعجزه عن الفعل لمرض، أو كبر أو غيره، وإما لعدم العزيمة وإرادته… الجبن هو الشح بالنفس وألا يكون الإنسان شجاعًا فلا يقدم في محل الإقدام، والهرم الشيخوخة.
وأما البخل فهو الشح بالمال، لا يبذل المال بل يُمسكه حتى في الأمور الواجبة لا يقوم بها”.
فتأمل الإرشاد النبوي الكامل كيف دلّنا على أن نعوذ بالله أن يصيبنا بشيء من هذه الأمور الموقفة للخيرات من الأفعال في الدنيا، ثم أتبعها بالاستعاذة من عموم فِتن الحياة وما بعد الموت.
٦- (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن) تُدرك شمول هذه الاستعاذة إذا فرّقت بينهما: فالهم للمستقبل والحزن للماضي “والإنسان إذا كان حزينًا فيما مضى مهتمًا لما يستقبل فإنه يتنكّد عيشه”.
فإذا التفت للحاضر وأعطاه قدره من الاهتمام، ولم يتكلّف التفكير في المستقبل حتى النكد؛ اطمأن.
٧- (اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شرّ نفسي) وفي رواية: (وقِني شر نفسي) “ألهمني رشدي يعني اجعلني مُوفّقًا للرشد، والرشد ضد الغي، والغي هو المعاصي والشر والفساد، والإنسان إذا وُفّق إلى الرشد فإنه مُوفّق، وهذا هو غاية المؤمنين الذين قال الله عنه: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [ألحجرات:7] فهذا هو الرشد”.
هذه بعض الأدعية النبوية؛ وشيء من شمولها! فتنبّه لحضور قلبك أثناء الدعاء؛ “فإن حضور القلب وخشوعه، واستحضاره لمعاني الدعاء من أعظم أسباب الإجابة”.
* الدعاء للآخرين بظهر الغيب من علامات صدق الإيمان:
أصله الحديث النبوي: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فكيف يكون علامة صدق؟ إنك “إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب بدون وصية منه كان هذا دليلًا على محبّتك إياه، وأنك تُحب له من الخير ما تحب لنفسك”.
وهذا الدعاء للآخرين دون طلب منهم هو الذي يُقال للداعي من طرف الملائكة كما ورد في الحديث الآخر: (عند رأسه ملك مُوكّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملَك الـمُوكّل به: آمين، ولك بالمثل).
فادعُ لهم وازدد إيمانًا.
* إخفاء الدعاء:
ومن العبادات كذلك إخفاء الدعاء، وقد ذكر لها ابن القيم -رحمه الله- فوائد، في كتابه “بدائع الفوائد” ومنها قوله: “أحدها أنه أعظم إيمانًا لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع دعاء الخفي وليس كالذي قال إن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وثانيها أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تُخاطب الملوك ولا تُسأل برفع الأصوات وإنما تُخفض… وثالثها أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولُبّه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلّت جوارحه وخشع صوته… ورابعها أنه أبلغ في الإخلاص، وخامسها أنه أبلغ في جمعية القلب على الله في الدعاء فإن رفع الصوت يُفرّقه ويشتته… وسادسها… أنه دالٌّ على قُرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسأله مسألة مناجاة القريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد…” .
وإذا تأملت في كثير مما ذكره من الفوائد؛ وجدتها دالةً على قدر التوحيد في الداعي، فهو بين معرفة بعظمة الله وقُربه وكمال قدرته، وبين انخراطٍ في الخشوع والخضوع والذل لخالقه ومناجيه ومُجيبه. فلابد من استحضار ارتباط الدعاء بمعرفتنا بالله تعالى، فهذا الاستحضار من أسباب التفاوت في تعبدنا بالدعاء.
أسألُ الله العلي العظيم الكريم أن يَمنَّ علينا بجوده وكرمه في هذا الشهر الفضيل فيجعلنا من عبادِه الـمُخلَصين الداعين المبتهِلين، وأن يجعلنا ومَن نُحب من عتقائه الفائزين المفلحين.
▪️للاستزادة:
– (شرح رياض الصالحين، ابن عثيمين).
– [محاضرات في فقه الدعاء، حنان اليماني].
– كتب ابن القيم، ومنها: بدائع الفوائد، والوابل الصيب.
جمانة بنت ثروت كتبي
مقالات سابقة للكاتب