دراسة نقدية لمدونة “سَمُرَات الحَيِّ”

يوسف العارف

 1- في جولة رحلية سابقة، كنا في حائل، وكان محور اللقاء عن القهوة السعودية [انظر مقالنا عن هذه الرحلة، صحيفة غراس الإلكترونية 14 فبراير 2023م] وكان لقائي المبهج مع الأستاذ الدكتور ظافر العمري الذي أعرفه ناقداً وأستاذاً أكاديمياً، ومحاوراً ذكياً، ومحدثاً لبقاً، وذاكرة أدبية تورق بكل جميل ومفيد. لكنني اكتشفته اليوم شاعراً، عندما أهداني ديوانه الأول (سمرات الحي) الصادر عن نادي حائل الأدبي عام 1444هـ. ووعدته بالقراءة النقدية عن هذا الديوان في سياق مقارباتي الشعرية المتنوعة. وقد أكدت ذلك في مقالتي عن حائل والقهوة السعودية التي أشرت إليها آنفاً.

وها أنذا اليوم أعود للديوان قارئاً ومحللاً وناقداً وكاتباً. فلعل فيما أكتبه بعثاً جديداً للحروف والقوافي والمفردات التي جاءت في الديوان، ومسباراً جمالياً لتلك الفضاءات الشعرية التي احتوتها هذه المدونة الشعرية!!

*      *      *

2- من سيرته المرفقة في آخر الديوان (ص 103)، يشير إلى أن له عدد من المؤلفات في البلاغة والنقد والأدب وله ديوان تحت الطبع!! ولعله يقصد هذا الديوان/ البكر وفيه 25 نصاً/ قصيدة ومنها قصيدة بعنوان (سمرات الحي) وهي الثانية والعشرين في ترتيب القصائد ومنها تحول إلى عنوان/ وسم للديوان بكامله. وهذا أحد مداخل القراءة الناقدة فيما يسميه النقاد والمحدثون العتبات النصيَّة أو الموازية!!

2/1  ولنبدأ المقاربة النقدية أولاً مع هذه القصيدة/ النموذج، والتي استحقت أن يتحول عنوانها من داخل الديوان إلى خارجه عنواناً رئيساً، ولافتة تعريفية للديوان كاملاً.

تغريك القصيدة بموسيقاها الخليلية، وقافيتها الميمية وبحرها (البسيط) الذي يوحي لك – كقارئ – بنَصٍّ خالد في ذاكرتنا الشعرية وهو نص قصيدة نهج البردة لأحمد شوقي، ومطلعه:

ريـم على القـــاع بين الحــل والحـرم
أحللن سفك دمي في الأشهر الحرم

وهنا تبدأ رحلة (التناص) بين هذا وذاك في جمالية أسلوبية/ شاعرية مائزة على مستوى الصوت والموسيقى، وعلى مستوى القافية الواحدة، وعلى مستوى المفردات والكلمات. ومما يؤكد هذه (التناصيَّة) هو (المكان) الذي تتحرك فيه أبيات القصيدتين، فإذا كان أحمد شوقي يتحدث عن مكة والتماهي الروحي مع المقام النبوي فإن ظافر العمري يتحدث عن الطائف والتماهي النفسي وذكرياته فيها.

2/2  يقوم هذا النَّص على بنائية شعرية ترتهن للسائد والمكرر المعاد من التعالقات الذات/ مكانية، فترى الطائف ومكوناتها البينية: مدينة الورد، قطعة من بلاد الشام، الشفا، الهدا، طائف الحسن، وج، طعم الكرم!! كما نرى الشاعر/ ذاته وأحلامه وهواجسه وذكرياته وحالاته النفسية:

طــــــاف الشــــــــــوق بي زمنــاً
يا أول العمــــر إشـــراقاً لأسئلتي
مــلاعب فــي ربا وج وأنـــــــــدية
عهدي بتلك المغاني وهي وارفة

وهذه الثنائية (الذات والمكان) جعلت من النَّص وعنوانه الداخلي مكسباً شعرياً يستحق إشاعته تعريفاً بالديوان كاملاً فكان عتبة عنوانية لافتة ومثيرة!!

وقد جاءت العنونة جملة من كلمتين (سمرات الحي) وأصلها في القصيدة وردت في البيت الخامس:

غنيت يسبق صوتي شوق أوردتي
فأورقت (سمرات الحي) من نغمي

و(سمرات الحي) في هذا البيت تتناص مع معلقة امرئ القيس التي جاءت فيها هذه الجملة في قوله:

كــأني غـــداة البين يوم تحمـلـــوا
لدى (سمرات الحي) ناقف حنظل

وقد قال شراح البيت/ والمعلقة أن الشاعر يعني تلك الشجرة الكبيرة المعمرة المعروفة بـ(الطلح) والتي يستظل بها الناس وقت الهجير ولذلك لجأ إليها الشاعر حائراً من حاله، مستجيراً بها من هجير الحب والوله بعد رحيل محبوبته، ويصف حاله كأنه (ناقف الحنظل) أي الذي يستخرج حباً من شجر الحنظل/ المر المذاق، فلا يشبعه ولا يرويه!!

لكن المفارقة جاءت في المعاني والدلالات فشاعرنا ظافر العمري من حبه للطائف وارتياحه فيها وشوقه إليها جعله يغني ويطرب حتى أن شجر (الطلح) (السمرات) أور قت من هذا الغناء وهذا النغم!! وبقدرة قادر تحولت هذه الجملة من البيت الخامس إلى عنوان للنَّص، ثم ارتفعت وارتقت بنيوياً لتكون شعاراً ووسماً ونعتاً للديوان بأكمله.

ومن الجميل هنا – ونحن في سياق العتبة العنوانية – أن نلاحظ عناوين القصائد في الديوان عبر هذه الإحصائية ودلالاتها الأسلوبية:

عدد القصائد في الديوان العناوين الثنائية العناوين الثلاثية العناوين المفردة
25 15 1 9

والنتيجة:

عنوان الديوان/ جملة ثنائية.

عناوين القصائد/ 15 عنواناً جملة ثنائية.

وهذا يعني شمولية العنوان الرئيس وقدرته على احتواء العناوين الثنائية الداخلية. وهذه جمالية فنية وأسلوبية يتعاطاها الشاعر بوعي منه أو بغير وعي ولكنها القراءة والمقاربة النقدية التي تفتق مثل هذه الدلالات!!

*      *      *

3- وإذا استنطقنا فضاءات الديوان وتفريعاته الموضوعية وجدنا فيه القصائد المكانية والوطنية، والقصائد الإيمانية/ الدينية، والقصائد التربوية والتعليمية، والقصائد الأسرية والعائلية. ويجمع ذلك ما يسميه النقاد بالشعر الوجداني الذي تغلب عليه الذاتية والمشاعر العاطفية والأحاسيس الخاصة أو العامة، والتعبير عن العواطف في مجالاتها المختلفة من فرح وهم وحزن وحب وكره ومواعظ وقضايا إنسانية عبر المنظور الإسلامي والعقدي التوحيدي.

ولعلِّي أزعم – نقدياً – أن الديوان كله ينطلق من رؤية إسلاموية للشعر والمشاعر، فيوظف الشاعر انتماءه لما يسمَّى (الأدب الإسلامي) في كل طروحاته الشعرية سواءً أكانت ذاتية أم جمعية/ جماعيَّة!!

ويتأكد ذلك من قوله في نصٍّ وطني بعنوان (سيد الشجعان) ص ص 25-30:

يا ناصــر الدين الحنيف وركـنه
إن قلَّـــت الأنصـــار والأركــان

الـدين والوطـن الكـريم وعــزة
غـراء تعـرف قـدرهـــــا الأديان

لن يستباح حمى العقيدة بيننا
وحمـى العقيدة مسـجد وأذان

يا موطنـــاً بالدين يعلـو شــأنه
الــــدين جــدده لنا سلمــــــان

كما يتجلى في نصِّ (لغة العلوم ص ص 45-51):

لم يبق في جسد العروبة من دم
إلا دم يجــــــــري إلــى الآجـــــال
…..

كــل العلـــــوم لســانها عجــميةٌ
أنَّــــــى لـــنا بمــــــؤذنٍ كـــــبلال

وفي نص (مهبط الوحي) ص ص 31-34 يقول:

إذا أقبـــلت نحـــوك في جلال
تولى الحزن والتأمت جراحي
….

وابتـــدع القصيــدة فيك حتى
يظـــن الشـعر أني غير صـاحِ
….

وأقــبل بالفـــؤاد وبي هيــام
إذا ناديت “حيِّ على الفلاح”

ونموذج أخير يؤكد تلك (الأسلمة) الأدبية والشعرية وذلك في نصِّه الموسوم بـ(هوى) ص ص 73-75:

ونلحـن في مجالسنا بقــول
وفاكــهة تسـر النــاظــــرينا
….

ويُنضَج في موائدنا طعــــام
لـــذيـذ من لحــوم الآخـــرينا
….

فما إن ننتهي في القدح إلا
ونبــــدؤه كـأنا قـــد نســـينا

في هذه المقتبسات تواشج ذاتي بين الموضوع والروح الإيمانية/ العقدية التي تأسس عليها وتنامى فيها فجاءت الحروف والقوافي مصبوغة بهذا الحس الإسلاموي والتناصات الدينية/ القرآنية والنبوية!!

*      *      *

4- ومن الجماليات الفنية والأسلوبية في هذا الديوان احتفاء الشاعر بالنص العمودي/ البيتي وعدم الخروج على عمود الشعر بنصوص التفعيلة أو النثيرة أو الحداثة!! فكل القصائد الـ(25 قصيدة) عمودية المبنى/ بيتية المعنى وإن حاول في نصه الأسري/ العائلي (لين) ص ص 69-72، أن يكتبه بطريقة سطرية على أنه نص تفعيلي لكن البحر والقافية تكشف لنا أنه نص عمودي/ بيتي شطري، على بحر الرجز (مستفعلن مستفعلن مستفعلن)!!

ويؤكد هذه الاحتفائية في قصيدة بعنوان (لغة العلوم) ص ص 45-51 يقول فيها:

لم تبق للفصحى سوى أنشودة
فـي حفـل تـوديــع أو استقبـــال
….

وكـلامــنا لفـظ مفيــد كاســـتقم
وأكفنـــا لم تســـتقم بفعــــــــال
….

ناديت بالشعر الأصيل فلم أجــد
صــرحاً بنته فصـــاحة الأقـــوال
….

ولســاننا عــيٌّ تكســـــر حرفه
لــم يكتتــب فـي غــزوة ونـزال

ومع أن الشاعر هنا يتحدث عن اللغة العربية ودورها في النهضة والتقدم، وواقعها المؤلم حيث انحسرت إلى الكلام المجاني والبلاغي دون التأثير التقدمي. لكنها تلمح إلى (الشعر الأصيل) الشعر العمودي/ البيتي الذي جفته المدونة الشعرية الحداثية!!

وهذا ما يؤكده الشاعر في نص بعنوان: (اللحن الجميل) ص ص 61-63 يقول فيه:

ما الشـعر إلا أن تكـون مخــالفـاً
لطــريقة يرضــى بهــا الكتــــاب
….

الشعر مثل الغيث حين تسوقه
ريــح، وســائر ما يقــال سـراب
….

لا تنكــروا لحنــاً وقد نطقـت به
زمــن (الخليل) جـتآذر وكعــاب

ورغم إيماننا بقيمة القصيدة العمودية، وديمومتها الزمنية والمستقبلية، إلا إني كنت أتمنى على الشاعر – وهو قادر إن شاء الله – أن يجرب الكتابة الشعرية عبر النَّص التفعيلي والقصيدة النثرية، وصولاً إلى القصائد الحداثية والخروج من رتم القصائد الواضحة المعاني، وذات القراءة الواحدة والأفق التكراري لأن قصائد التفعيلة، والنصوص الشعرية النثرية أو الحداثية تعطينا – كقراء ونقاد أبعاداً جديدة للقصيدة المعاصرة التي تخرج على الأقواس المعدة مسبقاً والتي جعلت شعرنا العمودي/ البيتي يسير في فلك التقليد والتكرار، أو كما قال في النص السابق:

لم يبق للفصحى سوى أنشودة
في حفــل تــوديــع أو استقبــال

أو قوله في النص الآخر:

ما الشعر إلا أن تكون مخالفاً
لطـريقة يرضـى بهـا الكتــاب

*      *      *

5- وختاماً…

فلعلنا نقف هنا، لنترك للقراء الأكارم فرصة الحوار والمداخلة مع هذا الديوان وقصائده الغرر، فيكفي ما أشعلناه من قناديل نقدية، وما تعاطيناه من جماليات فنية وأسلوبية.

وعلى اعتبار أنه الديوان الأول لشاعرنا ظافر العمري فهو مبشر بولادات شعرية قادمة وجديدة وأتمنى أن تكون متجددة ومعاصرة وذات أيقونات تفاعلية وبذلك يتنامى المشهد الثقافي السعودي والعربي بولادة شاعر مثقف منتج وفاعل في ساحتنا النقدية والشعرية. وإليه أهدي مقاطع من هذا النص من آخر دواويني الشعرية بعنوان: الفتى والقوافي العجاف:

  • 1-ما الذي أشعل قنديل حزني/ هذه (الحزة) من عمر الفتى (ال) كنته ذات مساء؟!

….

  • 2- كان ذاك الفتى يورق بالصحو/ ويقتات الأغاني العِذَاب / كان مولعاً بالقصائد/ يستشرف القادم بالفأل/ يمنح الأرض خصوبتها/ يقتبس نور مشكانه من شموس لا ترى/ ونجوم تسامت إلى الضوء تواً/ وعابرة من سحاب هتون!!

….

  • 3- صار هذا الفتى مجدب حقله/ تتنامى البراغيث من لحمه/ يوشك الحزن أن يصنع منه ندىً شاحباً/ وليالٍ ذات أقمار كسافٍ/ وشموس لاتبين!!

….

  • 4- وهذا أنا الآن/ أطفئ مشكاة حزني/ أيمم شطر النبوءات/ لعل الفتى (ال) كنته ذات مساء/ يورق بالشفق الزاهي/ وينتعل الممكنات/ يحرث أرض القصائد/ يبذر فيها الجمال/ يستشرف الآتي على أمل من حراك!!

 

من ديوان: الشاعر والأمم المتحدة

صادر عام 1444هـ ص ص 61-63

 

والحمد لله رب العالمين

الدكتور: يوسف حسن العارف

جــــــدة …

من الأربعاء 4/11/1444هـ

إلى الأحد 8/11/1444هـ

مقالات سابقة للكاتب

تعليق واحد على “دراسة نقدية لمدونة “سَمُرَات الحَيِّ”

ناصر سليم الحميدي

حقيقة أنت المبدع ، والمعين الذي لاينضب…
قراءاتك المتنوعة في الثقافة، والتاريخ، والأدب، وشاعريتك العذبة، الصافية بصفاء روحك، وعذوبة منطقك…أضافة إلى الثقافة إشراقات دائمة ومتجددة…
قراءتك لديوان سمرات الحي قراءة فاحصة باصرة…
سلمت ودام ألقك أيها الأخ العزيز…
والله يحفظك في نصك ومنصوصك 💐

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *