الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فنحن في هذه الأيام نستقبل مواسم عظيمة من مواسم التجارة مع الله تعالى والتقرب إليه بصنوف العبادات. وموسم الحج موسم اجتمعت فيه الشعائر الزمانية والمكانية لمن هيأ الله له أداء شعيرة الحج؛ فاجتمع فيه شرف الزمان؛ إذ هو من الأشهر الحرم وأشهر الحج وعشر ذي الحجة. وشرف المكان لمن هيّأ الله له الوصول إلى هذه المشاعر المقدسة. وهذه من نعم الله تعالى التي يختصّ بها من يشاء من عباده.
وفي هذا الموسم العظيم لا يغيب عن مسامعنا ترديد شعار الحج(التلبية) على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل.
وهذا أمر مشروع، فيه تعظيم لشعائر الله تعالى، ورفع لمكانة التوحيد وإعلانه والبراءة من كل ما ينقضه أو ينقصه.
ولكن الكثير من الناس يرددون هذا الشعار ويتغنّون به ويلحّنونه بأصواتهم وترديداتهم الجماعية، والقليل منهم من يفقه معانيه ودلالاته وما يترتب عليه، والعبرة إنما هي بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ فقط؛ ما هي إلا قوالب للمعاني المقصودة.
من أجل هذا كانت هذه الأحرف اليسيرة لإلقاء الضوء على معاني هذه التلبية ودلالاتها، سائلا المولى عز وجل أن يجعلنا جميعا ممن حقّق معانيها وقُبل منه ذلك بإجابته(لبيك وسعديك) وسلِم من موانع الإجابة لها.
وأول ما يمكن أن يبتدأ به إنما هو بإلقاء الضوء على صيغ تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، والصيع التي أقرّها صلى الله عليه وسلم من الصحابة.
صيغة إهلاله صلى الله عليه وسلم:
جاء في رواية سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل ملبّدا:((لبيك اللهم لبيك…)) -بمثل رواية جابر ثم قال-:(( لا يزيد على هؤلاء الكلمات))
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبّي:((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك ))
وفي رواية لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهل بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الكلمات ويقول:((لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)).
ولذلك جاء في رواية نافع: كان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها:( لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل)
وقد جاء في رواية جابر إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الزيادات اليسيرة التي تؤكد المعنى الرئيس للتوحيد في تلبية النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا منه، ولزم رسول الله تلبيته”.
معاني ألفاظ التلبية:
معنى “لبيك”:
وأول ألفاظ التلبية:(لبيك) وقد ذكر علماء اللغة لها معانٍ متعددة متقاربة في الدلالة والنتيجة، وليس هذا مكان بسط كلامهم في ذلك.
ومن أهم هذه المعاني:
1- الإجابة: بمنزلة سمعاً وطاعة، إلا أن “لبيك” لا يتصرف؛ فكأنه أراد بقوله: لبيك وسعديك إجابة بعد إجابة، كأنه قال: كلما أجبتك في أمر فأنا في الأمر الآخر مجيب، وكأن هذه التثنية أشد توكيداً فعلى هذا معنى لبيك: إجابة بعد إجابة.
2- الإقامة بالمكان: فكأن قوله: لبيك، أي: أنا عبدك مقيم عندك إقامة بعد إقامة. ويُحكى هذا عن الخليل.
قال ابن القيم: ” إنه من لَبَّ المكان إذا أقام به ولزمه، والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها، وهذا اختيار الجوهري”.
3- القصد أو الجهة: قال الخليل: هو من قولهم: داري تلبّ دارك أي تحاذيها، والمعنى: اتجاهي وقصدي إليك.
4- الانقياد، من قولهم: لبّبت الرجل إذا قبضت على تلابيبه، ومنه لببته بردائه، والمعنى: انقدت لك، وسعت نفسي لك خاضعة ذليلة كمن لبّب بردائه وقبض على تلابيبه.
5- المحبة، من قولهم: امرأة لبَّة إذا كانت محِبَّة لولدها، ومعناه: حباً لك بعد حبّ، وفيها معنى التعظيم والمحبة، فالحاج حينما يلبي يلحظ هذا المعنى وهو أني قد أجبتك محبة وتعظيماً لك يا رب.
6- اللُّب، مأخوذ من لُبِّ الشيء وهو خالصه، ومن لُبّ الطعام، ولُبّ الرجل وهو عقله وقلبه، ومعناه: أخلصت لُبّي وقلبي لك، وجعلت لك لُبّي وخالصتي.
7- الرخاء والسعة، من قولهم: فلان رخي اللبب، وفي لب رخي أي في حال واسعة منشرح الصدر، ومعناه: إني منشرح الصدر متسع القلب لقبول دعوتك وإجابتها.
8- الاقتراب، من الإلباب وهو الاقتراب، أي: اقترابا إليك كما يقترب المحب من محبوبه.
وهذه معان متقاربة وجميعها ملحوظة في المعنى الشرعي كما سيأتي ؛ ولذلك عرّف شيخ الإسلام التلبية بأنها: “إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والملبي هو: المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلبّته، والمعنى: إنّا مجيبوك لدعوتك ؛ مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة، لا نزال على ذلك”وهذه الإجابة دافعها الحب والتعظيم والتقرب بقلب متسع منشرح الصدر بذلك، قاصد ومتوجه إليك.
ولفظ “لبيك” وضع للإجابة، مثل حروف التصديق والإيجاب نحو: نعم، وبلى، وأجل ونحوها.
وقد ورد هذا اللفظ في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم مكررا أربع مرات للتأكيد والتحقيق.
وقد ورد في السنة ما يدل على هذا المعنى كما في الأحاديث التالية:
أولاً: أحاديث في إجابة الأنبياء لنداء الله تعالى، ومنها:
1- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:((يقول الله عز وجل يوم القيامة يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك )).
2- ونحوه: إجابة نوح عليه السلام إذا دعاه الله تعالى يوم القيامة فيقول:(( لبيك وسعديك يا رب)).
ثانياً: أحاديث إجابة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1- حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: مرَّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: يا أبا هر فقلت: لبيك يا رسول الله..الحديث))
2- وحديث أنس قال: التفت النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه فقال:((يا معشر الأنصار، قالوا: لبيك يا رسول الله، أبشر نحن معك… الحديث)
ومنها إجابة عبدالله بن قيس وكعب بن مالك ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: لبيك يا رسول الله، وكلها تعني الإجابة مع الحب والتعظيم.
معنى( اللهم).
هذا اللفظ ورد مكررا في القرآن الكريم وفي السنة النبوية في صيغ الدعاء كما وردت هذه الصيغة في كلام العرب، وأصلها:( يا الله) فحذفت الياء وزيدت الميم المشددة في آخره عوضا عن ياء النداء.
وزيادة الميم مع تشديدها له أثر في المعنى؛ لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى؛ فإن الميم زيدت: للتعظيم والتفخيم، ولذلك جاءت أكثر أدعية النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ “اللهم” لا بلفظ “يا الله”.
كما أن الميم تدل على الجمع وتقتضيه، ولذلك فالسائل إذا دعا بـ: “اللهم”، فكأنه قال: ” أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته” فيكون سأل بجميع أسمائه تعالى ولذلك قال الحسن البصري:(“اللهم” مجمع الدعاء)
وقال النضر بن شميل:(من قال: “اللهم” فقد دعا الله بجميع أسمائه)
ومعنى:(لا شريك لك) تأكيد التوحيد بنفي الشريك عن الله تعالى، وجاءت نكرة في سياق النفي لتعمّ فتشمل نفي الشريك عن الله تعالى في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته تعالى، ثم كررها بعد الثناء على الله تعالى، بقوله: إن الحمد والنعمة لك والملك، وذلك يتضمن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك، والأول يتضمن أنه لا شريك له في إجابة هذه الدعوة) وأكد ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم حجة لا رياء فيه ولا سمعة)
ومعنى:( إن الحمد والنعمة لك والملك )
من قال: بفتح همزة(أن) فيكون ما بعدها سيق مساق التعليل، أي لبيك؛ لأن الحمد والنعمة لك.
ومن قال بالكسر(إن) كانت جملة مستأنفة مستقلة تتضمن ابتداء الثناء على الله تعالى بما هو أهله.
ولذلك قال ثعلب:”من قال بالكسر فقد عمّ، ومن قال بالفتح فقد خصّ”
وفي اجتماع الثناء على الله تعالى بالحمد والنعمة والملك في التلبية إضافة إلى الثناء على الله تعالى بكل صفة من هذه الصفات على انفراداها، ففيه -إضافة إلى ذلك- معنى آخر متعلق باجتماعها فهو كمال مع كمال قال ابن القيم: ” فإذا اجتمع الملك المتضمن للقدرة مع النعمة المتضمنة لغاية النفع والإحسان والرحمة، مع الحمد المتضمن لعامة الجلال والإكرام الداعي إلى محبته كان في ذلك من العظمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله، وكان في ذكر الحمد له ومعرفته به من انجذاب قلبه إلى الله وإقباله عليه والتوجه بدواعي المحبة كلها إليه ما هو مقصود العبودية ولبّها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.
وقال ابن المنير: ” قرن الحمد والنعمة وأفرد الملك، لأن الحمد متعلق بالنعمة ولهذا يقال: الحمد لله على نِعمِه، فجمع بينهما كأنه قال: لا حمد إلا لك، لأنه لا نعمة إلا لك، وأما الملك فهو معنى مستقل بنفسه، ذكر لتحقيق أن النعمة كلها لله لأنه صاحب الملك “.
وفيه لطيفة أخرى وهي أن الكلام يصير بذلك جملتين مستقلتين؛ فإنه لو قال: إن الحمد والنعمة والملك لك، كان عطف الملك على ما قبله عطف مفرد، فلما تمت الجملة الأولى بقوله: “لك” تم عطف الملك كان تقديره: والملك لك فيكون مساويا لقوله: له الملك وله الحمد، ولم يقل: الملك والحمد لك، وفائدته تكرار الحمد في الثناء.
كما أنه عرّف الحمد والنعمة والملك لإفادة الاستغراق، فكل المحامد لله تعالى كما أن النعم كلها له سبحانه وهو موليها والمنعم بها، كذلك الملك فكله لله لا لغيره، فلا ملك حقيقة إلا له سبحانه، قال تعالى(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) ) [آل عمران:26].
إهلال النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد:
التوحيد هو أوجب الواجبات وأجلّ العبادات، من أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب وشرعت الشرائع، بل ما خلقت الجن والإنس إلا لعبادته تعالى وتوحيده.
والتلبية هي التوحيد بجميع أنواعه ومقتضياته ولوازمه: ولذا قال جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:(فأهلّ بالتوحيد) واستمر صلى الله عليه وسلم على التلبية بالتوحيد حتى رمى جمرة العقبة، ثم تحوّل إلى إعلان التوحيد بألفاظ وصيغ أخرى؛ فبدأ بالتكبير والتهليل والتحميد، وهي تحمل معاني التلبية ولكن بصيغة أخرى.
وعن أنس رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال:( ثم ركب حتى استوت به على البيداء، حمد الله وسبح وكبر، ثم أهل بحج وعمرة) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “استحباب التسبيح وما ذكر معه قبل الإهلال قل من تعرض لذكره مع ثبوته”.
ولذا فلا غرابة أن يستفتح النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الحج بالتوحيد ويستمر على ذلك حتى نهاية نسكه.
اشتمال التلبية على أنواع التوحيد:
والتلبية مشتملة على معاني التوحيد وأنواعه؛ ففي قوله:(لبيك اللهم لبيك) معاني التوحيد الطلبي فهي تتضمّن الاستجابة والانقياد وذلك بنفي ما يضاده وهو عموم نفي الشريك عن الله تعالى، إضافة إلى ما في معاني( لبيك) من معاني التوحيد الطلبي وهي: تتضمن الاستجابة والانقياد لله تعالى كما تتضمن: التقرب إلى الله تعالى والإخلاص في ذلك لأن لُبّ الشيء خالصه.
كما تتضمن دوام العبودية لله تعالى بالاستمرار والإقامة والملازمة للعبودية، وفيها أيضاً دلالة واضحة وصريحة على كمال الحب والذل لله تعالى مع كمال الحب والخضوع له سبحانه-كما سبق- وهما ركنا العبودية الحقّة لله عز وجل.
وفي قوله:(اللهم) إثبات للتوحيد العِلمي، ومنه توحيد الأسماء والصفات.
لذا فالسائل إذا دعا بـ: “اللهم” فكأنه قال: ” أدعو الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى بأسمائه وصفاته” فيكون سأل بجميع أسمائه تعالى. ولذلك قال الحسن البصري:(“اللهم” مجمع الدعاء).
وقال النضر بن شميل:(من قال: “اللهم” فقد دعا الله بجميع أسمائه)
وقال أبو رجاء العطاردي:( إن الميم في قوله: “اللهم” فيها تسعة وتسعون اسما من أسمائه تعالى ).
وفي قوله:(لبيك لا شريك لك) تأكيد للتوحيد الطلبي بنفي الشريك عن الله تعالى، وجاءت نكرة في سياق النفي لتعمّ فتشمل نفي الشريك عن الله تعالى في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته تعالى، ثم كررها بعد الثناء على الله تعالى، بقوله: إن الحمد والنعمة لك والملك، وذلك يتضمن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك، والأول يتضمن أنه لا شريك له في إجابة هذه الدعوة) وأكد ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم حجة لا رياء فيه ولا سمعة).
وفي قوله:(إن الحمد والنعمة لك والملك) إثبات وتأكيد للتوحيد العلمي أيضا، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات
وأكد تفرد الله تعالى بذلك بقوله عقيبه(لا شريك لك).
كما أن التلبية مشتملة على الحمد الذي هو أحب ما يتقرب به العبد إلى الله وأول من يُدْعى إلى الجنة أهله، وهو أول فاتحة الصلاة وخاتمتها.
ومشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها، وعلى الاعتراف بأن الملك كله لله تعالى وحده، فلا ملك على الحقيقة لغيره.
ولذلك قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ” فهذا توحيد الرسول صلى الله عليه وسلم المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد، ولإثبات الأفعال التي استحق بها أن يكون منعما، ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه”.
وهذا الهدي النبوي في الإهلال بالتوحيد يعطي دلالة واضحة على وجوب العناية بالتوحيد والبدء بتحقيقه وتقديمه على كل الواجبات، ومراعاة سلامته من القوادح والنواقض التي تخدش صفاءه ونقاءه، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من دعائه:((اللهم أعوذ بك أن أشرك بك شيئا وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلم)).
كما يجب على مريد الحج أن يحقق أسباب قبول الحج، وأولها تحقيق التوحيد، والتخلص من كل شائبة من شوائب الشرك، كبيره وصغيره، جليّه وخفيه، وأن يكون صادقا في تلبيته وإجابته حينما يقول: لبيك اللهم لبيك.. لأن التلبس بشيء من أدران الشرك من أكبر أسباب عدم القبول وحبوط العمل، قال تعالى: (ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:88] وقال تعالى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمَر:65].
اشتمال التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جسيمة أخرى:
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى جمله مما اشتملت عليه التلبية من القواعد عظيمة والفوائد الجليلة، فقال:
“إحداها: أن قولك لبيك يتضمن إجابة داع دعاك ومناد ناداك ولا يصح في لغة ولا عقل إجابة من لا يتكلم ولا يدعو من أجابه.
الثانية: أنها تتضمن المحبة كما تقدم ولا يقال لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه ولهذا قيل في معناها أنا مواجه لك بما تحب وأنها من قولهم امرأة لبة أي محبة لولدها.
الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية ولهذا قيل هي من الإقامة أي أنا مقيم على طاعتك.
الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل أي خضوعا بعد خضوع من قولهم أنا ملب بين يديك أي خاضع ذليل.
الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص ولهذا قيل إنها من اللب وهو الخالص.
السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى إذ يستحيل أن يقول الرجل لبيك لمن لا يسمع دعاءه.
السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله ولهذا قيل إنها من الإلباب وهو التقرب.
الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعارا لانتقال من حال إلى حال ومن منسك إلى منسك كما جعل التكبير في الصلاة سبعا للانتقال من ركن إلى ركن ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في الطواف فيقطع التلبية ثم إذا سار لبى حتى يقف بعرفة فيقطعها ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها فالتلبية شعار الحج والتنقل في أعمال المناسك فالحاج كلما انتقل من ركن إلى ركن قال لبيك اللهم لبيك كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن الله أكبر فإذا حل من نسكه قطعها كما يكون سلام المصلي قاطعا لتكبيره.
التاسعة: أنها شعار لتوحيد ملة إبراهيم الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها
ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يدخل فيها بها.
العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.
الحادية عشرة: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو من أحب ما يتقرب به العبد إلى الله واول من يدعي إلى الجنة أهله وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
الثانية عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلها ولهذا عرفها باللام المفيدة للاستغراق أي النعم كلها لك وانت موليها والمنعم بها.
الثالثة عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بأن الملك كله لله وحده فلا ملك على الحقيقة لغيره.
الرابعة عشرة: أن هذا المعنى مؤكد الثبوت بإنّ المقتضية تحقيق الخبر وتثبيته، وأنه مما لا يدخله ريب ولا شك”.
إلى غير ذلك من الفوائد الجليل التي استنبطها رحمه الله تعالى.
حال السلف مع التلبية:
كان السلف يستشعرون معنى التلبية والإحرام، فهو يعني عندهم الانخلاع من جميع الشهوات الأرضية، والتوجه بالروح والبدن إلى خالق السموات والأرض، لذلك فقد كانوا يضطربون عند التلبية، فتتغير ألوانهم، وترتعد فرائصهم خوفاً من عدم القبول، فكان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا أحرم لم يتكلم في شيء من أمر الدنيا حتى يتحلل من إحرامه.
وقال سفيان بن عيينة: حج عليُّ بن الحسين فلما أحرم واستوت به راحلته اصفرّ لونه وارتعد، ولم يستطع أن يلبي، فقيل له: ما لك؟ فقال: أخشى أن يقول لي: لا لبيك ولا سعديك. فقيل له: لا بد من هذا، فلما لبّى غشي عليه حتى سقط من راحلته فلم يزيل يعتريه ذلك حتى قضى حجه.
ولما حجّ جعفر بن محمد( الصادق) فأراد أن يلبي، تغيّر وجهه، فقيل له: ما لك يا ابن رسول الله؟ فقال: “أريد أن ألبي وأخاف أن أسمع غير الجواب”، وكان شريح القاضي إذا أحرم كأنه حيّة صماء من كثرة الصمت والتأمل والإطراق لله -عز وجل-.
أهمية التلبية:
1- تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها أول نسكه واستمر على ذلك حتى رمى جمرة العقبة، وذلك لما تضمنته هذه التلبية من التوحيد والإخلاص والتنزيه لله تعالى ونفي الشرك والبراءة منه.
2- الإكثار منها وإعلانها على الملأ.
وإبراز التوحيد من خلالها وإظهاره ليقتدوا به.
ومما يدل على أهمية الإهلال بالتوحيد إعلان النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الملأ وإظهاره كما جاء في حديث جابر المتقدم حينما أهلّ صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وهو راكب القصواء والحجاج محيطون به صلى الله عليه وسلم من جميع الجهات مد البصر، يرددون ما يقول ويعملون بما يعمل.
وقد أخرج الشافعي عن محمد بن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر من التلبية.
وكذلك الصحابة فهذا ابن عمر كان يلبي راكباً ونازلا ومضطجعا.() وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سابط قال: ” كان سلفنا لا يدعون التلبية عند أربع: عند انضمام الرفاق حتى تنضم، وعند إشرافهم على الشيء وهبوطهم من بطون الأودية أو عند هبوطهم من الشيء الذي يشرفون منه، وعند الصلاة إذا فرغوا منها” قال الشافعي: ” وما روى ابن سابط عن السلف هو موافق ما روي علن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن جبريل أمره أن يأمرهم برفع الصوت بالتلبية”.
وفي هذا من الدلالة على وجوب إظهار التوحيد وإعلانه ورفعه مناره وإعلان البراءة من الشرك وأهله؛ لأن المشركين كانوا يلبّون لكنهم يشركون في تلبيتهم أيضا، فقد كانت تلبيتهم:(( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)).
وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحج ظاهر فيه إعلان مخالفة المشركين والحرص على ذلك ابتداءً بالتلبية ثم ببقية الشعائر من الوقوف بعرفة والانصراف بعد الغروب، والرحيل من مزدلفة قبل شروق الشمس.. إلى غير ذلك من المواقف.
3- جعلها شعار الحج.
كما في حديث زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أَتَانِي جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالإِهْلاَلِ – أَوْ قَالَ – بِالتَّلْبِيَةِ)). زاد في رواية أحمد وابن ماجه ((فإنها من شعار الحج)).
وفي مشكل الآثار مرفوعاُ: ((إن من شعار الحج رفع الصوت بالتلبية)).
وسماها ابن عباس رضي الله عنه:(شعار الحج) و(زينة الحج)
فلما كانت التلبية شعار الحج أمر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم إظهار هذا الشعار لأهميته وذلك برفع أصواتهم به لإعلان التوحيد صراحة والبراءة من الشرك وأهله.
كما جعلها شعار الانتقال من حال إلى حال ومن منسك إلى منسك، كما جعل التكبير سببا للانتقال من ركن إلى ركن، ولهذا كانت السنة أن يلبي حتى يشرع في طواف القدوم،ثم إذا سار لبّى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها..
وقد علل ابن عبد البر قطع التلبية برمي الجمرة بقوله: ” لأن المحرم لا يحل من شيء من إحرامهن ولا يلقي عنه شيئا من شعثه حتى يرمي جمرة العقبة، فإذا رماها فقد حلت له أشياء كانت محظورة عليه، وذلك أول إحلاله، فينبغي أن تكون تلبيته بالحج على حسب ما كانت عليه من حين أحرم إلى ذلك..”
4- الأمر برفع الصوت بها.
كما في حديث زيد المتقدم وكما في حديث السائب بن خلاد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال يريد أحدهما )).
وهذا هدي الأنبياء عليهم السلام من قبل: فموسى عليه السلام يصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:((كأني أنظر إليه هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية))
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ قال:((العَجُّ والثَّجُّ))
والعج: رفعُ الصَّوت بالتّلْبِيةِ وقد عَجَّ يَعِجُّ عجًّا فهو عَاجٌّ وعَجَّاجٌ، والثّج: سَيلان دماء الهدْي والأضاحي يقال ثَجَّه يثُجُّه ثَجًّا
وقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم(فكانوا لا يبلغون الروحاء حتى تبحّ أصواتهم من شدة تلبيتهم).
وعن المطلب بن عبد الله قال: “كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم”.
وفي رفع الحاج صوته بالتلبية من الدلالة ما فيه من إعلان التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك، ولما فيه من تذكير غيره من الحاج بالتلبية، ولما فيه من متابعة الجمادات له بالتلبية وإعلان التوحيد كما في حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وها هنا)).
كما أشار ابن المنيّر إلى معنى لطيف في مشروعية التلبية، فقال: ” وفي مشروعية التلبية تنبيه على إكرام الله تعالى لعباده بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاء منه سبحانه وتعالى”.
5- كونها من سنة الأنبياء السابقين، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
فمن دلائل أهميتها وتعظيمها لما فيه من إعلان التوحيد وتحقيقه أن الأنبياء كانوا يلبون بها ويهلّون بالتوحيد في حجهم إلى بيت الله العتيق.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:((لما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: يا أبا بكر أي واد هذا؟ قال: وادي عسفان، قال صلى الله عليه وسلم:((لقد مرَّ به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق))
ولما مر بوادي الأزرق قال صلى الله عليه وسلم:(( كأني أنظر إلى موسى هابطاً من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية، ثم لما مر على ثنية هرشى قال صلى الله عليه وسلم: كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خُلْبة وهو يلبى)).
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((والذى نفسى بيده ليهلّنّ ابن مريم بفجّ الروحاء حاجا أو معتمرا أو ليثنينهما)).
وفي هذا من الدلالة على أهمية التلبية وما فيها من التوحيد وتعظيم الأنبياء لها؛ لأنها إعلان وتحقيق التوحيد المشترك بينهم عليهم السلام،قال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25].
6- أن من مات محرما بعثه الله تعالى يوم القيامة ملبياً.
وذلك لانشغال المحرم بالتلبية وإعلانها فيبعث على ما مات عليه من التوحيد.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فوقصته ناقته وهو محرم فمات فقال صلى الله عليه وسلم:(( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً)).
يعني: يحشر يوم القيامة على هيئته وحاله الذي مات عليه، فيكون ذلك دليلا على أنه مات حاجاً أو معتمراً، معلنا التوحيد والبراءة من الشرك.
هذا ما تيسر جمعه في هذه العجالة عن معنى التلبية ودلالاتها، أسأل المولى عز وجل أن يكون نافعا مفيدا؛ فلبك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أ.د/ عبد الله بن عمر الدميجي
مقالات سابقة للكاتب