الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام، وأقام بالعدل نظام ملكه بين الأنام، وجعله دعامة الأمن والسلام.
والصلاة والسلام على خير من رفع للعدل منارًا، وأعلى له شعارًا، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيوم عرفة هو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، يستذكر فيه المسلمون بمزيد من الفخر والاعتزاز معان العزة والتمكين، عندما وقف النبي – ﷺ – في حجة الوداع، في مشهد عظيم من الصحابة، الذين بلغ عددهم أكثر من مائة ألف نفس، كما قال أبو زرعة الرازي – رحمه الله -: “حج مع النبي – ﷺ – أكثر من مائة ألف نفس” وهو عدد ضخم في ذلك الوقت، وكلهم إما رأى النبي – ﷺ – أو سمع منه.
وحجة الوداع خطب النبي – ﷺ – فيها أكثر من خطبة؛ وسبب خطب النبي – ﷺ – المتكررة هي حاجة الناس إلى بيان الشريعة، وليعلن- ﷺ – عن أعظم وثيقة تاريخية لحقوق الإنسان، التي أَنْصَتَ لها التاريخ، وتناقلتها الأجيال، فكانت وثيقة شاملة جامعة، حوت الأسس والمبادئ العامة لحقوق الإنسان وتضمنت تلخيصا عامًا لأهم التشريعات والقواعد والحقوق الإسلامية، فجمعت بكلمات قليلة مالم تأتي به آلاف الكتب والمواثيق.
مِنْ مَهْبَطِ الإِسْلامِ جَاءَ بَيَانُ
الْعَدْلُ قَدْ جَاءتْ بِهِ الأدْيَانُ
********
وَمُحَمَّدٌ – ﷺ – أَزْكَى الخَلِيقةِ كُلِّهَا
أَوفَى الرِّسَالةَ فَاعتَلى الإِيمَانُ
********
أَرْسَى العَدَالةَ والمُسَاواةَ التِي
يَحْيَّا كإِنْسَانٍ بِهَا الإنْسَانُ
********
إِعْطَاءُ ذِي حَقٍّ جَمِيعَ حُقُوقِهِ
هُو شَرْعُنَا والشَّاهِدُ الأَزْمَانُ
لقد عَالجتْ هذه الوثيقة مجموعة من الحقوق الإنسانية التي سجلت أسبقية للشريعة الإسلامية في مجال إقرار حقوق الإنسان، التي لم يعترف بها العالم إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
لقد أدهشت هذه الوثيقة دعاة حقوق الإنسان من غير المسلمين؛ لأنهم وجدوا فيها سبقًا إسلاميًا إلى تقرير مبادئ حقوق الإنسان قبل قرون طويلة من التفاتهم إليه ودعوتهم لها.
وقد سبقت وثيقة حجة الوداع؛ وثيقة المدينة التي كانت من ضمن أهم الأعمال التي قام بها النبي – ﷺ – بعد هجرته إلى المدينة، في السنة الأولى من الهجرة النبوية.
فبعد أن بنى المسجد، وبنى حجرات أمهات المؤمنين، وأخى بين المهاجرين والأنصار، قام – ﷺ – بإبرام وثيقة أو دستورًا بين أهل المدينة بطوائفها كلها، وهي الوثيقة السياسية الأولى واشتملت على بناء العلاقات والمواطنة والتعايش.
وفي مقارنة بين هاتين الوثيقتين: خطبة الوداع ووثيقة المدينة، يقول د. عبدالسلام أبو سمحة: في لقاء مع إحدى القنوات الفضائية ” المنصفين من علماء الدستور القانوني يقولون: إن ميثاق المدينة هو أول نص دستوري في تاريخ البشرية، ثم يقول: وأنا أجزم أن ميثاق الوداع – إذا جاز لنا التعبير تسميته بهذا اللفظ – هو أول ميثاق أممي يخترق الزمان والمكان ليحقق الوحدة للبشرية جمعا.
لأن أمن الدماء وأمن الأموال والأمن الإجتماعي والأمن الإقتصادي هذه لغة عالمية”
من أهم مضامين الوثيقة:
أولاً: حرمة الدماء والأموال والأعراض من قوله – ﷺ – : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم.. )، [أخرجه مسلم].
وقد جعل الشرع النفس والعرض والمال من الضروريات الخمس الأساسية التي لابد من حفظها.
وحق الحياة لكل إنسان هو حق مقدس وله أن يتمتع بهذا الحق، لا يحل انتهاك حرمته. قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ). وحرص الإسلام على حماية النفوس من القتل حيث توعد قاتل النفس بأشد عقوبة، يقول الله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً)، [النساء : ٩٣]
وفي السنن قال – ﷺ – (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق).
ثانيًا: حرمة المال: من قوله – ﷺ – : (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم.. )، [أخرجه مسلم].
فالمال مال الله والإنسان خليفة الله في هذا المال، ولا يحل لأحد أن يأخذ منه إلا عن طيب نفس صاحبه، لذلك شدد الإسلام في عقوبة السرقة، قال تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ثالثًا: أسقط الموروث الجاهلي سقوطًا ليس لأحد أن يرفع شعاره بعد، لقوله – ﷺ – : (أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ).
رابعًا: حرمة الربا، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، واستغلال فاحش لحاجاتهم وضعفهم.
لقوله – ﷺ – في هذه الخطبة: (وربا الجاهليةِ موضوعٌ، وأولُ ربًا أضعُ من رِبَانَا ربا العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ، فإنَّهُ موضوعٌ كلُّه..)، [أخرجه مسلم].
ويقول أيضاً: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه).
خامسًا: الوصية بحقوق النساء والحث على الإحسان إليهنَّ، ووضع الحقوق والآداب المشتركة بين الزوجين، وحدد حقوق كل منهما على الآخر، لقوله – ﷺ -:(فاتَّقوا اللهَ في النساءِ، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانةِ اللهِ، واستحللتُم فروجَهُنَّ بكلمةِ اللهِ، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أحدًا تكرهونَه ، فإن فعلْنَ ذلك فاضربوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهُنَّ وكسوتُهُنَّ بالمعروفِ).
ويقول – ﷺ -: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).
سادسًا: التأكيد على التوحيد الخالص.
لقوله – ﷺ -:(أيها الناس إن ربكم واحد..) فلا إصلاح بلا تجذير لمعاني العقيدة والتوحيد، فعليه يكون مدار قبول العمل الصالح و أهمية التوحيد فوق كل أهمية و مراده أعظم مراد .
سابعًا: مبدأ المساواة، بين الناس لقوله – ﷺ -:(إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد وكلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم). فلا فرق بين عربي وأعجمي.
ودعا إلى القضاء على الفوارق بين المسلمين، وأعلن الأخوة الإسلامية، لا تفاضل بينهم إلا على أساس التقوى والعمل الصالح.
ثامنًا: تحديد مصادر التلقي: لقوله – ﷺ -: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟). وفي لفظ آخر: (كتاب الله وسنتي).
تاسعًا: التأكيد على وحدة الأمة.
لقوله – ﷺ -: للحديث السابق.
ولقوله – ﷺ -: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض).
وختامًا: يتبين من خلال بعض مضامين خطبة حجة الوداع (الوثيقة)، أنها غنية جدا بمبادئ إقرار حقوق الإنسان، فهي أحاطت بجميع ضرورياته في الحياة، بدأ بحفظ دينه ونفسه وعقله وعرضه وماله، عن طريق تحريم الاعتداء عليها، أو حتى الانتقاص منها، ومن أهم هذه الحقوق:
١- حق التدين لله من غير اعتداء ولا إكراه.
٢- حق الحياة.
٣- حق الإنسان في الأمن على ماله ودمه وعرضه.
٤- حق المساواة في الأصل البشري، ولا تفاضل إلا بالتقوى.
٥- حق التآلف والتعاون والأخوة والتحابب بين المسلمين.
٦- حق التملك، ومنع الاستغلال.
٧- حق المرأة في تشريفها وحفظ حقوقها.
٨- الحقوق الزوجية.
٩- حق الحاكمية.
أسأل الله جل في علاه كما بلغنا خير أيام الدنيا، أن يبلغنا حج بيته الحرام هذا العام، بلاغ توفيق وسداد وقبول في القول والعمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين، وصلَّ الله وسلمَ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب