الحمدُ للهِ الذي أعزنا بالإسلام وجعلنا من أمة خير الأنام ، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي خصّه ربه والصحابة الكرام بسوابغ الفضلِ والإنعام.
أما بعد:
فلا يوجد أمة من الأمم إلا لها تاريخ معروف، يُرجع إليه، ويُعوّل عليه، ينقله صغيرها عن كبيرها وخلفها عن سلفها، تُقيد به شوارد الأيام، وتُنصب به معالم الأعلام، فهو ضرورة إجتماعية، لم يعد بالإمكان تصور الحياة بدونه، ولولا ذلك لانقطعت الوُصل، وجُهلت الأول.
وقديماً كانت العرب لا تخرج تواريخها عن أحداثها الدنيوية، وتفاصيلها الحياتية، فالأتراح والأفراح هي مسرح التاريخ. فيؤرخون في ترحهم بالهزيمة في الحرب، أو تفشي الوباء، أو حدوث الزلازل، وأما أفراحهم فهي كسقوط المطر بعد عطش وجفاف، أو النصرة في الحرب، أو قدوم ملك، وكانت العرب تقول: عام بناء الكعبة، عام الفجار، عام الفيل، عام سيل العرم، ثم أطلقوا على كل سنة اسمًا خاصًا بها، فقالوا: عام الخندق، وعام الحزن، وعام الرمادة.
ظل الوضع على ما هو عليه حتى زمن النبي – ﷺ – وزمن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – إلى أن أتت الحاجة في أول زمن خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في سنة ست عشرة، أو سنة سبع عشرة، عندما اتسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهده – رضي الله عنه – أصبحت ترد إليه كتب لايدري في أي عام، فمثلا: تأتي إليه كتب في شعبان؛ ولايدري هل هو شعبان من هذا العام أم من عام سابق.
فجمع الصحابة – رضي الله عنهم – واستشارهم في وضع تاريخٍ للمسلمين، فتشاور الصحابة في ذلك، ثم اتفقوا جميعًا على وضع تاريخ للمسلمين، لكنهم اختلفوا في بداية هذا التاريخ أين يبدأ؟ فقال بعضهم: يبدأ بميلاد النبي – ﷺ – وقال بعضهم: بنزول الوحي على النبي- ﷺ – وقال بعضهم: ببعثة النبي – ﷺ- وقال بعضهم بموت النبي – ﷺ-. ورأى عمر وأكابر الصحابة: أن أعظم حدث هو هجرة النبي – ﷺ – من مكة إلى المدينة، لأنه بهذه الهجرة تكونت الدولة الإسلامية في المدينة وأصبح للمسلمين قوة انطلقت منها رسالة الإسلام ونور الإسلام.
فاتفقوا على أن يجعلوا بداية التاريخ القمري هجرة المصطفى – ﷺ – فأصبح التاريخ الهجري. ولذلك يقال: التاريخ الهجري نسبة إلى هجرة النبي- ﷺ – الذي بهجرته استنار الكون، واشرقت الأرض بنور رسالته.
وكان هذا الإختيار من الصحابة – رضي الله عنهم – اختيارًا موفقًا لأن الهجرة من أعظم أحداث سيرة النبيﷺ .
إذا قَامتِ الدُّنيَا تَعُدُّ مَفَاخِرًا
فَتَارِيخُنَا الوضَاءُ مِن الهِجْرَةِ ابْتَدَا
ذكر الجبرتي في كتابه: تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار: “أن الصحابة ربطوا تاريخهم بهويتهم الدينية ولا سيّما بعد الهجرة من مكة إلى المدينة، حيث أطلقوا على تلك السنة سنة الإذن بالرحيل، والسنة الثانية بعدها سنة الأمر بالقتال، والسنة العاشرة سنة الوداع”.
ثم بدأ الصحابة – رضي الله عنهم – يتشاورون بعد ذلك من أي الشهور يبدؤون التاريخ الهجري؟
فبعضهم قال: نبدأ من شهر ربيعٍ الأول، لأنه شهر الهجرة، وبعضهم قال: نبدأ من شهر رمضان، لأنه شهر نزول القرآن، وبعضهم ككبار الصحابة قالوا:
نبدأ من شهر محرم؛ وذكروا بعض التعليلات في ذلك منها:
أولًا: قالوا: أننا نبدأ السنة بشهر حرام ونختم السنة بشهر حرام وهو ذو الحجة.
ثانيًا: أن شهر محرم يلي شهر ذي الحجة الذي هو منصرف الناس من حجهم.
ثالثًا: أن شهر محرم انعقدت فيه بيعة النبي – ﷺ – للأنصار على الهجرة إلى المدينة، وهذه البيعة مقدمة الهجرة، فاختاروا أن يبدؤا السنة بشهر محرم.
وتتكون السنة الهجرية من اثني عشر شهرًا، وهم على التوالي: محرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الآخر، جمادى الأولى، جمادى الآخرة، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة.
والذي زاد من قيمة التاريخ الهجري أنه إرتبط بكثير من العبادات والمناسبات الإسلامية، كشهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى، وبداية موسم الحج، وارتبط بالعِدَدِ، والرِّضَاع.
فالتاريخ الهجري له مكانة خاصة، ومكانة تعبدية في داخل وجدان الأمة المسلمة، والتعامل مع التاريخ الميلادي وإن دعت إليه الحاجة، فلا ينبغي أن يهيمن على تأريخ أحداثنا ومناسباتنا، خاصة الشرعية منها، فإن التأريخ القمري (الهجري) من الدين، وهو جزء من هويتنا الإسلامية.
وفي الختام: أسأل الله جل في علاه أن يجعلَه عاماً هجريًا مباركاً تتحقَّق فيه العزَّة والنصر والتمكين للمسلمين.
والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن مهدي قاسم الريمي
مقالات سابقة للكاتب