شَهْرُ صَفر بين الجَاهِليةِ والإسْلَام

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على من بعثه الله بشيرًا ونذيرا، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن شهر صفر هو أحد الشهور الهجرية، وهو الشهر الذي يلي شهر الله المحرم، وقد اختلف في سبب تسميته بهذا الاسم، فقيل: لإصفار مكةَ من أهلها؛ أي: خُلوَّها من أهلها إذا سافروا، وقيل: لأنَّهم كانوا يغزون فيه القبائلَ، فيتركون مَن لَقوا صفرًا من المتاع، أي: يسلبونه متاعه فيصبح لا متاع له.[لسان العرب لابن منظور، ج: ٤ ص: ٤٦٣/٤٦٢]

وقد جاءت الشريعة الإسلامية ودعت إلى كل كمالٍ بشري، ونهت عن كل نقصٍ بشري، ومن ذلك التشبه بأهل الجاهلية.
قال تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَ}،[الأحزاب: ٣٣]

فالشريعة جاءت بكل مايخالف أهل الجاهلية، ومن ذلك: الإستسقاء بالنجوم، والتطير والتشاؤم، والنياحة عند المصائب، والفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والكِبر، إلى غير ذلك من أخلاق أهل الجاهلية.

وقد كان للعرب في الجاهلية في شهر صفر منكران عظيمان:
الأول: هو النسيء الذي ذكره االله عنهم في القرآن بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}.
[التوبة: ٣٧] 
ِوهو التلاعب به تقديمًا وتأخيرًا، فكانوا يؤخرون ويقدمون فيه على أهوائهم، فجعلوا شهر صفر بدلًا من المحرم، وكانوا يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور.

وأما المنكر الثاني: فهو التشاؤم به.
فقد كان مشهورًا عند أهل الجاهلية، ولا زالت بقاياه في بعض من ينتسب إلى الإسلام، فالتشاؤم عادة موغلة في القدم، ضاربة في أعماق التاريخ، ارتبطت ارتباطاً مباشرًا بمخاوف الإنسان من المجهول، وتوجسه من المفاجآت، وترقبه لحلول المصائب والفواجع، والأحزان والمكاره، وتنزُّل الأقدار التي يتمنى المرء خلافها، ويرجو ضدها، إنها عادة تَوقْعُ حصول الشر.

فجاءت الشريعة الغراء بنفيه والنهي عنه، وذلك في كتاب الله – عز وجل – وفيما صح عن رسول الله – ﷺ- قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}، [ النساء: ٧٨]

وأمَّا النهي عنه في السنة المباركة فقد صحت في ذلك أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي – ﷺ – قال: (لا عدوى ولا طيرة ولاهامة، ولا صفر)،[رواه البخاري ومسلم].

وقد اختلف أهل العلم في تفسير لفظ “صفر “إلى ثلاثة أقوال أرجحها وأشهرها أنه الشهر القمري، وأن المقصود هو نفي التشاؤم عن هذا الشهر كما كان يفعل العرب في الجاهلية. 

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الترمذي:قال رسول- ﷺ -: ( الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ).

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله – ﷺ -: ( لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل ) قالوا : وما الفأل ؟ قال ( الكلمة الطيبة )، [رواه البخاري].

فأهل الجاهلية أهل تطير وتشاؤم، وقد جاء الإسلام ليهدم معتقدات الجاهلية، ويدفع الأوْهامَ والخيالاتِ التي تَعبَثُ بالعقول، والتّطَيُّر من أخلاقِ الجاهليةِ التي قضى عليها الإسلام، وهو بمعنى التَّشاؤمِ، فما أصاب العباد لم يكن ليخطئهم، وما أخطأَهم لم يكن ليصيبهم، فما وقع في الأرض من مصيبة؛ كالقحط، وهَلاك الزرع والثمر، أو في الأنفس؛ كالأمراض، والأوجاع، والفقر، والموت إلَّا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق النفوس.

قال الحافظ ابن رجب: وأما تخصيص الشؤم بزمان دون زمان؛ كشهر صفر وغيره، غير صحيح، – بل هو كسائر الشهور ليس عنده خير ولا شر، وإنما الخير من الله سبحانه، والشر بتقديره – لأن الزمان كله خَلْق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله فهو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشؤوم عليه.

ولو عدنا لبعض الأحداث التي دونتها كتب السيرة في شهر صفر لوجدنا أنه قد حصل في هذا الشهر بشائر وحوادث مشرقة للأمة، وفي المقابل حدثت أحداث مأساوية للأمة.

وهذا لا يعني أن هذا الشهر شهر شؤم تقع فيه المصائب؛ لأنه لا دخل للزمن فيما قدره الله، ولا يجلب الزمن أو يرد قضاء الله وقدره.

وسأعرض بعضًا من هذه الأحداث والوقائع بإختصار على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
فمن تلك الأحداث المشرقة:
غزوة الأبواء، وهي أول غزوة غزاها النبي ﷺ. وفتح خيبر. وسرية قطبة بن عامر بن حديدة إلى خثعم بناحية بيشة. وغزوة ذي أمر. وقدوم وفد بني عذرة على رسول الله – ﷺ – فأسلموا، وبشرهم رسول الله – ﷺ – بفتح الشام. وإسلام عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان عند النجاشي، فقدموا إلى المدينة. وهجرة النبي – ﷺ- من مكة، خرج في صفر، وقدم المدينة في ربيع الأول. وزواجه – ﷺ – من خديجة بنت خويلد رضي الله عنها. وزواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالسيدة فاطمة رضي الله عنها. وغزو الروم.

ومن الأحداث المأساوية التي وقعت للأمة في شهر صفر:
غزوة الرجيع، والتي قتل فيها ستة من الصحابة رضي الله عنهم غدرًا.
ووقعة بئر معونة والذي قتل فيها سبعون صحابيًا من خيرة الصحابة وقرائهم. ومرض النبي – ﷺ. ومعركة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.

وختامًا: التشاؤم ينافي الإيمان ويناقض التوكل على الله تعالى فكمال التوكل على الله، هوصدق اعتماد القلب عليه – سبحانه – في استجلاب المنافع ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، والاعتقاد بأنه لا يعطى ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه – سبحانه وتعالى- وهو عنوان الإيمان وأمارة الإسلام.

اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.

والحمدلله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

حسن مهدي قاسم الريمي

مقالات سابقة للكاتب

2 تعليق على “شَهْرُ صَفر بين الجَاهِليةِ والإسْلَام

غير معروف

ما شاء الله

صالح بن عبدالله اللحيدان

الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، والصلاة والسلام على من بعثه الله بشيرًا ونذيرا، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان.
جزاك الله خير ونفعنا الله بعلمكم ونعوذ بالله من الشرك ومن التطير ومن شر حاسد إذا حسد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *